2,172 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن جويرب
في التاريخ الأوروبي لا أَجِدُ كثيراً من المؤرخين المنصفين، خاصة أولئك الذين يؤرِّخون لتاريخ العلوم؛ فهم يريدون طمسَ كلِّ معلومة عن التاريخ العربي ولا يظهرونه، وقد قبلنا ذلك في المتقدمين منهم، فما بال المعاصرين الذين ولدوا فيما يسمّى بالديمقراطية وتعلموا حقوق الإنسان وقواعد البحث والتحقيق، لماذا لا يردون الفضل إلى أهله ويقرون ما للعرب من أفضال على الغرب إلى قيام الساعة. ومن أعجب ما قرأت كتاباً للدكتور الأمريكي كلوفرد بكوفر يظهر مؤلفه باحترافية عالية تاريخ روّاد المعرفة، فيبدأ بأرخميدس وعلماء اليونان والرومان، ثمَّ يقفز قفزة مدتها قروناً طويلة ليهبط في عصر النهضة، ثمَّ ينتهي بالبريطاني هوكينج في ثلاثة مجلدات متجنباً ذِكْرَ العرب وعلومهم وما قدَّموه للبشرية من مخترعات ونظريات ومصنَّفات جليلة، وهذا المؤلف لا يزال يعيش بيننا وقد رأى الحقيقة بعينيه ولكن الحقد أعمى.
وبعكس هذا الأمريكي قامت الراحلة الألمانية زغريد هونكه قبل عقود قليلة بجهود كبيرة ومنصفة لتاريخ العرب، فنشرت كتابها الشهير “شمس الله تشرق على الغرب” وتمَّ تغيير اسمه إلى شمس العرب، وهذا الكتاب لا يقلُّ قيمةً عن كتاب لوبون المنصف “حضارة العرب” وإن كانت هونكه الألمانية متأثرة جداً بالعادات الشرقية حتى إنها اتخذت أثاثاً من الشرق في بيتها.
ومجمل القول أنَّ لكلٍّ منهما فضل الإنصاف وإظهار الكنوز العربية المخفية التي طواها النسيان ولم يأتِ من العرب مَن يضاهي مصنفاتهما حتى الآن.
وَلْنَعُدْ إلى مآخذ النقّاد على كتاب “حضارة العرب” فقد قال لوبون عند ذكره لحياة النبي في البادية عند مرضعته حليمة السعدية: “فلما بلغ السنة الثالثة من عمره، ورأى أبواه من الرضاعة ما رأيا من الخوارق التي كانت تلازمه على زعم كتب السيرة”. فسارع النقّاد هنا فقالوا يشكِّك المؤلف بمعجزات النبي، وقد فاتهم أنَّ “زعم” لا تفيد الكذب بالإطلاق، ولهذا استخدمها المترجم لأنَّ الزعم قول يكون حقاً ويكون باطلاً.
وأكثر ما أخذوا عليه تشكيكه في أمر الوحي؛ فقالوا إنه ينكر الوحي ويدسُّ السُّمَّ في العسل فقال: “تقول القصة إنَّ محمداً سافر مرة مع عمه إلى سورية فتعرَّف في بصرى براهب نسطوري في دير نصراني فتلقى منه علم التوراة”. قلتُ: هذه غفلة منه وليس تشكيكاً فقصة الراهب بحيرا مشهورة في كتب السيرة وقد بشّر أبا طالب بالرسول وطلب منه أن يعود سريعاً إلى مكة، ففعل خوفاً على ابن أخيه فلم يبقَ معه لكي يتعلَّم منه وهو أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب لكن يشفع لغوستاف مدحه الكبير للنبي المصطفى فقال: “كان النبي أرجح الناس عقلاً، وأفضلهم رأياً، يُكثر الذكر، ويُقل اللغو، دائم البِشر، ليّن الجانب، وكان عنده القريب والبعيد والقوي والضعيف سواء. وجمع محمد قبل وفاته كلمة العرب، وخلق منهم أمةً واحدة خاضعة لدين واحد مطيعة لزعيم واحد، فكانت في ذلك آيتُه الكبرى”.
بعض فصول كتاب حضارة العرب
هذا الكتاب الكبير جمع فأوعى من أخبار العرب، وقد اخترت لكم بعضاً منه: يقول لوبون عن أقسام جزيرة العرب:
لم يعرف القدماء من جزيرة العرب سوى الشيء القليل، ومعرفة الرومان لجزيرة العرب كانت ضعيفة إلى الغاية، ولكنهم لم يستطيعوا أن يقهروا قبائل البدو العربية التي احتمت بكثبان الرمال وجو البلاد. ولم يتوغل الأوروبيون في جزيرة العرب إلا حديثاً، ولم يعرف عنها الأوروبيون، قبل نيبوهر الذي زارها سنة ١٧٦٢م، سوى ما أخذوه عن جغرافيِّي العرب أو عن بطليموس، ولما كانت سنة ١٨١٥ استأنف بُركهارد البحث، فجمع أنباءً رائعةً عن جزيرة العرب في مكة والمدينة، ثم جاب جزيرة العرب سيَّاحٌ كثيرون نذكر منهم والين (سنة ١٨٤٥)، و بُرتُون (سنة ١٨٥٢)، وبلغريف (سنة ١٨٦٢). هذا وقد جهل الأوروبيون مكة، وكانت أولى الصور عنها تلك التي التقطها أحد رجال الجيش المصري، صادق بك، والتي انتهت إلينا بأوروبا في سنة ١٨٨١.
ثمَّ تحدث عن العرب ومن هم؟ فقال المؤلف:
عُدّ العرب واليهود والفنيقيون والعبريون والسوريون والبابليون والآشوريون، الذين استوطنوا جزيرة العرب وآسية الصغرى حتى الفرات، من أصل واحد، ويُطلق على هذا الأصل اسم الأَرومة السامية. وعندي أنَّ أهل البدو من العرب، مع بقائهم على الفطرة وعدم تحولهم قيد أنملة عن الحال الابتدائية التي كانوا عليها منذ أقدم العصور، أفضل من جميع أمم الرعاة في العالم، وقد أتيح لي أن أحادثهم غير مرة، فظهر لي أنَّ مبادئهم في الحياة تعدُل مبادئَ كثير من الأوروبيين العريقين في الحضارة.
وعن الترف الذي عاشه العرب بعد الإسلام فيقول لوبون: “كانت قصور الحرية مؤثَّثة بأثمن الأثاث، وكانت حدائقها مكسوةً بأعز الأزهار، وكانت قواربها الأنيقة الساطعةُ الأنوار تشقُّ الفرات ليلاً حاملة أغنى الأمراء وأمهر الموسيقيين، وأطلق العرب لأنفسهم عنُن الخيال”.
وباختصار قسَّم المؤلف كتابه إلى ستة أبواب فبدأ بالبيئة والعرق، ذَكَر جزيرة العرب والعرب وعرقهم وحالهم قبل ظهور النبي، ثم ذَكَر مصادر قوة العرب ثمَّ انتقل إلى دول العرب وطبائعهم ونظمهم وفي الباب الخامس خصَّصه لحضارة العرب من علوم وفنون وتجارة وتمدُّن، ثم ينتهي بالباب السادس يتحدث فيه عن أسباب انحطاط العرب .
وفي الختام أنصحكم بقراءة هذا السفر الفخم؛ فلم يعرف العرب كتاباً أنصفهم وتاريخهم مثل كتاب “حضارة العرب” لغوستاف لوبون ..
تقرأون غدا :
ابن جبيهاء الظاهري..الشاعر الفقيه