ابن جبيهاء الظاهري.. القاضي الفقيه (1)

يوميات

 2,316 عدد المشاهدات

الكاتب: جمال بن حويرب

في تاريخ دولة الإمارات القديم والحديث أخبار كثيرة وسيرٌ لأعلام عاشوا في هذه الأرض الطيبة ضاع كثير منها ولم يبقَ منها إلا النزر القليل؛ بسبب قلة التدوين وعدم المحافظة على المخطوطات والوثائق القديمة من رسائل ومبايعات من عقود طويلة، ولما تولى والدنا الشيخ زايد الحكم أسَّس مركز الوثائق في نهاية الستينيات لجمع ما لدى الناس من هذه الوثائق المهمة، ولكن لم يسارع الأهالي لحفظ ما تبقى منها بل أبقوها في البيوت، وبسبب تغير أحوال المواطنين الاقتصادية وزيادة الخيرات بفضل الله ثمَّ بجهود حكومتنا الرشيدة حينذاك بدأ الناس ينتقلون من بيت إلى بيت جديد، وبسبب رحيل أصحابها خلال العقود الماضية تلفت كثير من هذه الوثائق ولم يبقَ مما كان قليلاً إلا أقله ولا يزال الإخوة والأخوات يضنون على الأرشيف الوطني بعدم تسليمهم ما لديهم، وإني لأخشى أن يصيبها ما أصاب الوثائق والمخطوطات الأخرى التي انتهت.
وأذكر هنا ما ذكره القاضي الفقيه سعيد بن محمد بن جبيهاء الظاهري، رحمه الله، عند ذكره لإحدى قصائد الشيخ محمد بن صالح المنتفقي، رحمه الله: “لما وقفت على منظومة الشيخ محمد بن صالح المنتفقي البصري الساكن بندر الصير (رأس الخيمة) في زمان الإمام سيف بن سلطان اليعربي، وقد رثاه أيضاً بمرثية في بابها وله أيضاً منظومة في الوعظ وغيرها كثير ولكنه ذهب بقلة الاعتناء وكم من كتب خطية وخطب ورسائل وقفنا عليها ولم نحفظ شيئاً منها، للأسف كل الأسف على التفريط في ذلك وكلنا في حاجة إليه لو كان باقياً في أيدينا”.

القاضي الفقيه سعيد بن محمد بن جبيهاء


يظهر لنا من هذه الكلمات حسف الشيخ بن جبيهاء شديد على ما ضاع في وقتهم من الرسائل والوثائق وتأسفه على ما تمَّ التفريط به، وهذه الكتابة قد تكون في الخمسينيات أو قبل ذلك يدل عليه ذكره بندر الصير ولم يذكر رأس الخيمة، وإن كان الاسمان شائعين ولكن في الكتابات القديمة والأشعار يكثرون ذكر الصير، فإذا كان الأمر كذلك في وقته من قلة المال وضعف الأحوال فما بال الوثائق المهمة تضيع في عصرنا كما ضاعت أخواتها!
وقد يسأل قارئ من هو القاضي سعيد بن جبيهاء؟ وما سيرته؟
الجواب: لا توجد لدينا معلومات كثيرة اللهم إلا ما تبقى من شعره الذي اعتنى بجمعه ونشره الدكتور خالد بن سالم اليبهوني، وقدم الكتاب السيد سيف نجل الشيخ سعيد بن جبيهاء، ثمَّ ألحقت المقدمة بترجمة مختصرة جداً للشيخ كتبها بقلمه سأذكر لكم بعضاً منها ثم أنتقل إلى ذكر ما جا في ديوانه رحمه الله.


وإني لأعجب من نفسي كيف كنت أزور في العين بعض العلماء الوافدين من دول أخرى ولم أنتبه إلى وجود الشيخ بن جبيهاء بيننا، وهناك غيره الذين غفلنا عن زيارتهم والأخذ من علومهم وتسجيل أخبارهم وسيرهم ولم تكن الحياة حينذاك كما نعيشها اليوم لسهولتها وقلة مشاغلها، فلم تكن فيها المذهلات من المشاغل اليومية والملهيات من البرامج الرقمية والجوالات الذكية وما فيها من حسابات اجتماعية تذهل المرضع عن وليدها أقول ذلك ونفسي تتقطع حزناً على ما فاتني من العلم.

نشأة الشيخ ودراسته
يقول القاضي سعيد بن محمد بن عبدالله بن جبيهاء الذي ولد في العين عام ١٩٠٥ مترجماً لنفسه: “تلقيت تعليمي في كل من العين ودبي وحفيت، وكنا ندرس القرآن الكريم والنحو والفقه والميراث والمذهب المالكي وتفسير القرآن وعلم الفرائض (المواريث) ولم ندرس هذه العلوم في وقت واحد ‏بل على مراحل وهذه الدراسات كانت لقلة من الناس، وأما معظمهم فكانوا يكتفون بقدر يسير من القرآن الكريم لصلواتهم”.

قلعة الجاهلي – العين


قلتُ: لا يوجد تعليم غير هذا التعليم في ذلك الوقت في بدايات القرن العشرين فلم يكن غير تعليم الكتاتيب وعلوم الفقه واللغة ولم يوجد التعليم النظامي إلا في منتصف الخمسينيات، وإن كانت هناك محاولات للتعليم شبه النظامي كالمدرسة الأحمدية بدبي ولكنها بقيت على التعليم الديني فقط ولم تكن تسع لكثير من الطلبة ولا تستقبل الطالبات كما تفعل المدارس النظامية.
يكمل الشيخ بن جبيهاء فيصف كيفية التدريس في مدرسة الكتاتيب التي تعلم فيها فيقول :
“كانت الدراسة على نظام المطاوعة، حيث يقوم المطوع بتدريس بعض سور القرآن الكريم وكان مكان الدراسة تحت النخيل، ثم درست على يد الشيخ علي بن سعيد الحادثي ‏في بيته الكائن في حارة المطاوعة شمال الصناعية بالعين الآن، وختمت القرآن الكريم”.
قلت: المطاوعة جمع مطوع وهو معلم القرآن للصبية دون العالم فكأنهم يطوعون الصغار على حفظ القرآن وتعلم مبادئ العلم، ثم شاع المصطلح فأصبح يطلق على كل متدين الآن، وفي قول الشيخ نتعلم تحت النخيل دليل على حرص الناس لتعلم العلم وتدريس أبنائهم ولو كان بغير مدرسة مبنية بأحدث المواصفات كما نراها هذه الأيام، ولهذا أثمر التعلم تحت الشجرة ظهور علماء قضاة من أمثال بن جبيهاء، رحمه الله، في حين لا نرى مدارس اليوم تظهر لنا أمثال أولئك الراحلين العلماء، كذلك قوله: “درست في بيته” دليل على كرم المعلمين ورحمتهم بالطلبة حيث كانوا يستقبلون التلاميذ في بيوتهم لوجه الله نشراً للعلم ولتقليل الأمية والجهل في بيوتهم، بل يذكرون لنا بأن بيوتهم وطعامهم كان عوناً للطالب العطشان للعلم .

هذا وللمقال بقية.. تابعونا غداً.

تقرأون غدا :

•أسلوب الشيخ بن جبيهاء الشعري وفنونه.

• معلومات من ديوان بن جبيهاء.