840 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
حُسْنُ الاستماع فنٌّ عظيمٌ تعلّمته في صِغري من والديَّ حفظهما الله ومن كبار السنّ من عائلتنا ومن جيراننا الذين رحلوا عنّا -جعل الله الجنّة مثواهم ومثوى المسلمين- وكنّت وإخوتي نتعلّمه بعفويةٍ من غير كتُبٍ ولا دراسةٍ ونحفظه من الشواهد الشعرية التي ينشدونها بين حينٍ وآخر باللهجة الشعبية أو بالأبيات الفصيحة وإن خلت من قواعد الإعراب إلا أنها تكفي للدلالة على المعنى المطلوب ، وكان تعليمهم بالأمر اللفظي مرّاتٍ وبالإشارة تارةً أخرى ونحن تكفينا منهم الإشارة بأعينهم لكي نعلم أنّ الوقت وقت صمتٍ أو وقت تكلّم.
ولم نكن نعارض في ذلك لأننا ننقاد إليهم طواعيةً فلا يشاركهم أحدٌ في توجيهنا اللهم إلا بعض جيراننا الذين يعطفون علينا ويقسون في أوقات الطاعة والعصيان كأنهم آباء لنا بل لم يكونوا يفرّقون بيننا وبين أبنائهم في تكاملٍ اجتماعيٍّ عجيبٍ لا أجده اليوم ولا أعرفه بعد تغيّر الحياة وتبدّل العادات وقد صار ما هو أشدّ وأنكى حيث لا يجرؤ الجار هذه الأيام أن يوجّه ابن جاره لما ينفعه وينصحه، وإن فعل ذلك فقد يحصل ما لا يُحمد عقباه، هذا إن وُجد الجار الناصح أو ابن المجتمع لأنّ القوم افرنقعوا وصاروا أشتاتاً بعد أن كانوا جمعا.
جني الأرباح
بعد مرور الأيام وبلوغنا مبلغ الرجال وقد عركتنا الحياة – فعرفتنا وعرفناها وحلبنا الدهر أشطره- اكتشفنا أهميّة خُلُق “حُسْن الاستماع” الذي تعلّمناه في الصغر من غير إدراك لأهمّيته حينئذٍ، فهو باختصارٍ: أوّل الطريق لحسن فهم الآخرين، فمن لا يحسن أو ليست لديه ملكة “حُسْن الاستماع” فإنه قد يقع في مصائب بسبب استنتاجات خاطئة مبدؤها سوء الاستماع، وقد يصحُّ هنا الاستشهاد بالمثل المشهور: “أساء سمعاً فأساء جابة” أي أساء سمع السؤال فأخطأ في الجواب، وقصة المثل كما هي في كتب الأمثال يقال: انّ سهيل بن مضعوف كان ماراً فرآه إنسان فقال له: أين أَمُّك أي قصدك ووجهتك فظنّ أنه يسأل عن أُمِّه(والدته) فقال ذهبت تطحن، فقال: “أساء سمعاً فأساء جابة”!.
ولهذا أحمد الله على حرص أهلنا على هذا الخُلُق الكريم والذي لا زلنا نحرص عليه ونعلّمه للأجيال الحديثة منّا بل يمكنني القول: بأننا نجني منه الأرباح في يومنا هذا ولا نخسر فيه، وكذلك أعرف عائلاتٍ كثيرة تحرص عليه لأنه خُلُق مفيد جداً ويجنّبنا كثيراً من سوء الفهم والإحراجات من غير فائدة ترجى، وهو موضوع أتكلم عنه منذ فترة في مقهى “تويتر” وأجد تجاوباً إيجابياً كبيراً من الأخوة والأخوات، وما بدأت “بحُسْن الاستماع”.
إلا لأّنه من أكثر الأمور التي تؤدّي قلّته إلى انتشار سوء الفهم ووقوع الاختلاف والخصام بين الخلق، وقد قال أحد الحكماء وهو يعظ ابنه: “يا بُني تعلّم حُسن الاستماع كما تتعلّم حُسن الحديث، وليعلم الناسُ أنّك أحرصُ على أن تَسمع منهم على أن تقول”.
نقل الحديث
هو من أسوأ ما يكون من الأقوال والأفعال البشرية، وكم أدّى إلى وبالٍ عظيمٍ وكوارث مجتمعية، وهو أيضاً أكثر ما يسبّب سوء الفهم بين الناس فكيف يُحسن فهم قولك من حقد عليك بسبب فعلة مفسدٍ ضالٍ نقل الحديث من شخصٍ إلى آخر بغرض الإفساد بين الإخوة أو الشركاء خاصةً في الأمور الخاصة التي تثير العواطف فتشحن القلوب بالأحقاد ويحصل من بعدها الشقاق والفراق.
إنّها “النميمة” القبيحة الخطيرة أيها الأعزاء وقد جاء في الأحاديث ما فيه مزدجر عنها بسبب الوعيد الشديد من ربّ العالمين ومن رسوله المصطفى الأمين عليه الصلاة والسلام، وقد روى الإمام مسلم في صحيحه :عَنْ حُذَيْفَةَ بن اليمان رضي الله عنه أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلاً يَنِمُّ الْحَدِيثَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “لا يدخلُ الجنّةَ نمّام”.
صدق رسول الله، فأيُّ فعلةٍ هذه تمنع شخصا دخول الجنة أمنية جميع الورى، إنّها لا بدّ جريمة وكبيرة عظمى، ومن تأمّل نتائجها الخطيرة على الأسر والمجتمعات علم سرّ هذه العقوبة المغلّظة، ولهذا وجب التأكد من قول النمّامين وعدم تصديقهم لكي لا نقع فريسة الوهم وسوء الظنّ وليس هناك أسهل من الحديث مع صاحب العلاقة مباشرة ليزول اللبس بإذن الله.
نشر في البيان
بتاريخ 21 سبتمبر 2012