7,560 عدد المشاهدات
الكاتب: خلف أحمد محمود أبو زيد – كاتب وباحث مصري
لقد بهر جمال الحصان العربي أنظار كثير من الباحثين والدارسين من مختلف الأمم والشعوب، على مدى قرون طويلة، وذلك يرجع إلى التناسق الفريد في مكونات الحصان العربي ورشاقته، التي تغنّى بها الشعراء على مدى العصور. نطوف عبر هذه السطور، مع مؤلَّف فرنسي، عن الخيول العربية، صدر في القرن التاسع عشر، للجنرال الفرنسي أوجين دوماس، الذي ولد عام 1803م، ودخل مدرسة الفروسية العليا العسكرية في مدينة سومور، ثمَّ وصل إلى الجزائر عام 1835م، وكان يحكمها آنذاك الجنرال بيجو، الذي عهد إليه بمسؤولية المشكلات العربية، وقد عاش هذا الجنرال الفرنسي كرجل علم فضولي، أعجب بالبدو وعشق حياتهم، فدرسها بدقة متناهية، وتفاصيل مذهلة وضعها في مؤلفات عديدة، كان أهمها على الإطلاق فيما كرّسه لدراسة الحصان العربي، حيث قدَّم دراسة ميدانية رائعة، حملت اسم «خيول وعادات الصحراء الكبرى»، هدف من ورائها إلى توثيق عالم الخيل عند العرب، لا عن طريق الكتب، بل عبر المشاهدة الحية والترحال .
وصف الكتاب
وقد وقع الكتاب في 480 صفحة من القطع المتوسط، لا يحتوي على صور أو أي رسوم سوى صورة الغلاف، حيث نرى لوحة ملونة لفنان فرنسي هو ألفريد دورو تمثل حصان الأمير (يقصد الأمير عبد القادر الجزائري) وإلى جانبه سائسه وكلبه.
وقد صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1852م، ثمَّ أعقبتها طبعة جديدة عام 1853م، وترجم إلى الألمانية والإسبانية، حيث لاقى استحساناً ونجاحاً كبيرين في الأوساط الأوروبية، لأنه كان يتجاوب مع الشوق الشديد، والفضول الكبير، الذي كان يشعر به كل أوروبي نحو كل ما هو شرقي، وقد تألف الكتاب من 15 فصلاً مكرسة جميعها لعلم الخيل، بدأها المؤلف بمقدمة وصف فيها حب العرب وتعلقهم بالخيل، حيث يقول: «لقد سرت محبة الحصان في دم العربي»، ثمَّ يشرح قيمة الحديث النبوي الشريف: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة». ويقول في ذلك: يحب الشعب العربي الأمجاد والسلطة والغنى، فإذا ما قيل إنَّ كلَّ ذلك معقود في ناصية حصانه، فمعنى هذا يربطه بحصانه وشائج وثيقة، تجعل جاذبية الحصان في منفعته الشخصية، لقد ذهبت عبقرية الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى أبعد من ذلك، دون شك، فلقد عرف أنَّ الرسالة التي تركها لشعبه لا يمكن أن تنفَّذ إلا بواسطة فرسان شجعان، وأنه يجب تنمية حب الخيل لديهم، مع الإيمان بالدين الإسلامي في وقت واحد.
أنواع الخيول
يبدأ المؤلف بدراسة أنواع الخيول، ويدقق في وصف الحصان العربي، الذي يسمّى في المغرب الحر Hor، وربما أصل كلمة Horas الفرنسية، والتي تعني المربط، بينما يسمّى في الشرق «الأصيل» أو «العتيق»، ويقول: إنَّ الأنواع القيّمة في القسم الغربي من الصحراء الكبرى ثلاثة: الحيمور وأبو الغارب والمرازيق، وإنَّ كثيراً من القبائل تربيها بشكل طبيعي وجيد، مثل بني حميدان وأولاد سيدي الشيخ، وأولاد يعقوب والعموريين، ويستمر في وصف كل جنس من أجناس الخيل، بدقة متناهية ملأت ثماني عشرة صفحة من الكتاب، حتى يصل إلى ما يسمَّى «الفحل»، وفيه تناول طريقة النزو والحمل والوضع والفطام بدقة علمية متناهية .
استعمال المهماز
ومن الأمور التي توقَّف عندها طويلاً، طريقة استعمال المهماز أو الكلاب، التي كانت منتشرة عند عرب الجزائر، وكانوا يطلقون عليها «شبير»، ويذكر أنَّ بعض الأعراب لهم براعة كبيرة في استعمال المهماز، وأنهم يكتبون به على جلد الحصان وهو منطلق جرياً، كلمة «بسم»، أي بداية البسملة دون أن يجرح الجلد، بل بحلاقة الشعر، ويذكر أنَّ ذلك يجعل الحصان الشموس يبول خوفاً من الفارس، ويصبح هادئاً كخروف، أو ككلب يلحق بصاحبه أينما يوجهه، ويستشهد في هذا الصدد بالمثل العربي المشهور «الفرس من الفارس، والمرأة من الرجل».
تدريبات الفروسية
ثمَّ ينتقل إلى وصف بعض التدريبات الخاصة بالعرب، نظراً لحياتهم القاسية، وتدريباتهم الحربية المستمرة، ومن أشهر هذه التدريبات التي توقَّف عندها، تدريب القيامة، وهو أن ينطلق الفارس بحصانه بأقصى سرعة، ثمَّ يجبره على الوقوف مسمَّراً في الأرض، ويبدأ بتوجيهه نحو نهر، أو وديان فيخاف الحصان، ويقف، ثمَّ يوجهه نحو شجرة أو جدار، ثمَّ يعرض لتدريب اللطمة، وهو أن ينطلق الفارس بأقصى سرعة ثمَّ يميل بالحصان يمنة أو يسرة، على زاوية قائمة 90 درجة، ويلطم بيده عنق الفرس بخفّة ليوجّهه يمنة أو يسرة شريطة ألا يتوقَّف عن الجري، ثمَّ النشاشة ويدرب الحصان بحيث يقفز بقائمتيه الأماميتين على حصان العدو، فيعض فارس العدو، ويلقيه أرضاً، أو يعض الحصان فيجبره على الهروب. ويذكر المؤلف أنه رأى في آخر بعض القوافل خيولاً عربية تركض وراء البعير المتخلِّف عن القافلة فتعضّه لتجبره على اللحاق بها.
ألعاب الفروسية وصفات الفارس
ثمَّ تناول بعد ذلك بعض الألعاب التي ارتبطت بالخيل والفروسية، والتي من أشهرها لعبة الحزام، التي يجب على الفارس فيها أن يلتقط، والحصان يعدو بأقصى سرعة، ثلاثة أحزمة قماشية ملقاة على الأرض، على أبعاد مختلفة، ويصف أيضاً لعبة النيشان، ثمَّ يعرض في سبع صفحات لأوصاف الفارس العربي، والتي أولها الصبر على الجوع والعطش، فإذا لم يتمكّن، فلا يكون فارساً في حياته قط، وآخرها طباع وعادات فرسه، فلا تغيب عنه لمحة أو فكرة، إلى أن يستمرَّ في استعراض مختلف وجوه علم الخيل من تغذية ونظافة جسم الحصان ومعلفه ومحبسه والإسطبل، ثمَّ ألوان الحصان والتحجيلات والشيات، وتفسيرها فيذكر مثلاً عربياً:
محجل الأربعة جلاب المنفعة
محجل الشمال مركوب الرجال
محجل اليمين مركوب السلاطين.
شراء الحصان وانتقاؤه
ثمَّ انتقل للحديث عن كيفية شراء الحصان وانتقائه وامتحانه، بل ويترجم المحاورة التي تجري بين البائع والمشتري، ثمَّ صفقة اليدين علامة على عقد البيع، ويؤكد أنَّ العربيَّ لا يزوِّر البيع كما يفعل الغربي، بإعطاء الحصان بعض الأدوية، بل يعتمد على وصفه الجميل، ولسانه الطلق لإقناع المشتري.
التسريج
ثمَّ يتناول المؤلف في فصل بالغ الأهمية موضوع التسريج، فيذكر أقسام السرج العربي، واصفاً الكلمة العربية أمام الفرنسية بدقة مدهشة، وعلم غاب حتى عن أنظار كثيرين من أساتذة الفروسية والبياطرة العرب اليوم، الذين يسمّون الرسن بشليق، والقربوس قنطرة، ويخلطون بين المقود والرسن واللجام والشكيمة، كما يمتدح السرج العربي، ويفضله على السرج الهنغاري، الذي كان يستعمله سلاح الفرسان في الجيش الفرنسي، ويعدّد له فضائل كثيرة لا يجدها فيه الفرسان العرب اليوم، الذين يفضلون السرج الإنجليزي، والذي في رأيه أسوأ السروج، وينهي هذا الفصل بقوله: «يصل العربي إلى الثقة بالنفس وجودة الركوب على ظهور الخيل بسرعة، بينما علينا أن نظلَّ أعواماً طويلة حتى نحتفل في بلادنا على فارس رديء»، ويتساءل عن السبب، رغم أنَّ شبابنا وشباب فرنسا أقوياء وأصحاء، إلى أن يقول: إنَّ السبب عائد إلى التسريج السيئ.
البيطار والبيطرة
ثمَّ كرَّس المؤلف فصلاً طويلاً يقع في ستين صفحة للبيطار والبيطرة، فيصف البيطار ودكانه وآلته وأدواته، ثمَّ مكانته الاجتماعية، إذ كان هو أيضاً الحداد صانع الأسلحة، لذا فلا يدفع ضرائب ولا يسهم في الحرب، وتظلُّ حصته من المغنم محفوظة، ولا يقتل في الحرب إلا إذا كان مسلحاً يقاتل، لأنَّ له حصانه، ثمَّ يتناول البيطرة وأمراض الخيل، فيضع المصطلحات العربية والأدوية، مع أسماء الأعشاب بالعربية والفرنسية والوصفات بأقصى دقة، حتى يصل إلى ما ضد الحصان، ويسبب غالبية أمراضه، والتي يرجع أسبابها إلى الراحة والبدانة.
الخيول العربية في نظر الفرنسيين
لقد ترك هذا المؤلف صدىً واسعاً لدى كثير من أعلام الفروسية من الفرنسيين الذين نظروا للحصان العربي والفروسية العربية بكل إعجاب وتقدير، نذكر في مقدمتهم الجنرال الفرنسي أودنيو الذي قال: «إنَّ الرجال الذين كرَّسوا أنفسهم لدراسة علم الخيل، يعترفون اليوم بأنَّ إدخال الدم الشرقي بقصد تهجين الخيول الأوروبية بخيول عربية هو المبدأ الذي يجب أن نلجأ إليه بأسرع ما يمكن». ويقول الجنرال دولاموربسير: «إنَّ كتابكم يسمح بإدراك الأسباب الحقيقية للكمال الذي وصل إليه الحصان بين أيدي أولاد إسماعيل (أي العرب)». كما قال الجنرال (ب) ديكاربير، الذي كان رئيس سلاح الفرسان في وزارة الحرب: «إنَّ للعرب في تربية الخيل وترويضها أفكاراً ذات صحة لا يمكن إنكارها، لأنها ثمرة خبرة تقليدية، وحصانهم هو الجدير بالمعارك والقادر على الجري سريعاً لمسافات طويلة». ثمَّ الكونت دور قائد مدرسة الفرسان، الذي يُعَدُّ حتى اليوم أفضلَ أساتذةِ الفروسية عند الفرنسيين، وصاحب مؤلفات تُعَدُّ أعمدة الفروسية الغربية، الذي قال: «بعد التأمل والتعليق والشرح لهذه الوثائق يصبح اعتقادنا كاملاً بأنه يجب أن نؤمن بأفكار ومفاهيم وتجارب شعب كل حياته ودينه موجودة في الحصان، الذي عرف كيف يحتفظ له بنبله وصفائه الأساسي، أما في أوروبا فكل الرجال الذين يربون الخيول على أفضل شكل، والذين يصلون إلى درجة عليا في ذلك يطبقون عملياً، بل ويحذون حذو المبادئ العربية في كل شيء»، إلى أن يقول: «وأنصح كلَّ الفرسان في فرنسا، بأن يكونوا التلاميذ المخلصين للفروسية العربية».
وفي النهاية نقول: إنَّ هذا المؤلف الفرنسي يقدِّم صورة حية وصادقة للخيول العربية، في منتصف القرن التاسع عشر، ويحتاج إلى المزيد من إلقاء الضوء عليه وترجمته إلى اللغة العربية، خاصة أنه لم يترجم إلى العربية إلى الآن، وكان آخر ظهور له في الأوساط العلمية الفرنسية عام 1986م، حيث أعيد نشره تصويراً على الأوفست، فنال نفسَ الاستحسان والقبول الذي حظي به في الماضي.