6,320 عدد المشاهدات
الكاتب: أ. جمال بن حويرب
يغفلُ كثيرٌ من الناس عن تاريخ بلادهم الذي ورثوه عن آبائهم أو طريقهم الذي استحدثوه بأيديهم وجدِّهم، فلا يتركون صغيرة ولا كبيرة من الآثار إلا رمَوْها، أو لم يهتموا بها فيكتب لها الضياع من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وعندما يأتون بعد ضياعها يبحثون عن ورقة تثبت لهم معلومة ما، يصدمون عندما يعلمون أنَّ الوثيقة التي كانوا يبحثون
عنها قد أكلتها الرمة أو أُحْرِقَت.
لقد فوجئت بقومٍ حرقوا كلَّ تراث والدهم بعد رحيله، ومن أمثالهم كثيرٌ في مجتمعاتنا، فلم يبقَ لنا تاريخٌ ولا صورةٌ ولا وثيقةٌ إلا تمَّ إتلافها كأنها عدوٌّ لهم وليست تاريخاً يبقى من بعدهم. وكذلك هدمُ الآثار في الماضي ونقلُ حجارتها من مكان إلى مكان آخر للبناء، أو صهر العملات القديمة من أجل أخذ ذهبها وفضتها أو خرقها لغرض الزينة وهم لا يعلمون قيمتها التاريخية.
قيمة كبيرة
ولو حدَّثْتُكم عمّا فعل الجهل بقيمة الوثائق التاريخية بأنواعها لبكيتم مثل ما يبكي كلُّ حريص على تاريخ وطنه، يراه أمام عينيه ولا يستطيع الوصول إليه، بسبب منع أصحاب الوثائق من تمكين الباحثين من الوثيقة لكي يقدموا لنا تاريخاً محقَّقاً، وأقول لكم إنَّ الحديث ذو شجون وسأحدثكم عن الوثيقة ومعناها واشتقاقها وأنواعها:
«الوثيقة» أصلها من مادة وثق وهو الإحكام، ثمَّ استخدمت في كلِّ ما يوثّق به ويحكم خاصة في المعاملات الرسمية من بيع وشراء وأوامر سلطانية وأحكام قضائية. أمّا الوثيقة التاريخية فهي كلُّ ما خلَّفه الحدث التاريخي من أحداث، وكلُّ ما يتركه السلف من آثار. فهذه الوثائق هي الشاهد على التاريخ، ولم تعرفها العرب بهذا المعنى ولهذا تخلو المعاجم القديمة منها، ثمَّ توسَّعت الآن لتشمل كلَّ شيء يمكن توثيقه من أوراق قديمة وحديثة وصور ولوحات وصوتيات وفيديوهات وغيرها.
ولا نعرف متى تمَّ استخدام الوثيقة بهذا المعنى، إلا أنه متقدم وقد جاء في شعر القاضي
عبدالعزيز بن أم ولد، أحد شعراء القرن العاشر:
هذه حجة مبانـيهـا
أسـسـت بـالوثاق تـأسيسا
صح عـندي فحـواها
لن ترى في السطور تلبيسا
ثم عبدالعزيز وقّعها
قاضيا في ديار مغنيسا
أنواع الوثيقة
أمّا عن أنواع الوثائق، فهناك من يظن أنها هذه الورقة القديمة البالية التي أكل عليها الدهر وشرب، والحقيقة أنَّ الوثيقة اليوم أوسع بكثير ممّا يظنون، فهناك أنواع كثيرة للوثائق وهذه أهمها:
– الوثائق الصامتة: مثل المباني والآثار التي تخلفها أي حضارة.
– الوثائق المكتوبة: ولها فروع منها:
النصوص: وتقسم إلى نصوص مقصودة؛ وهي التي وضعها أشخاص بقصد التأليف، ونصوص غير مقصودة؛ تظهر نتيجة تأثيرات سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية وعسكرية، وقد تكون النصوص شخصية أو عامة.
الإحصاءات: وهي تنشر عادة في الصحف أو الجرائد الرسمية التابعة للدول أو الأنظمة والأحزاب أو تنشر في المواقع الرقمية وتكون شاملةً لكافة المجالات.
الرسوم البيانية: وهي التي تنتج من الدراسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المختلفة سواء كانت من قِبَل الأجهزة الحكومية أو المؤسَّسات أو الأشخاص.
الصور:
وتتنوع الصور، فقد تكون رسمية تابعة للحكومات وما يصل بها كصور الوفود والاجتماعات الرسمية والتظاهرات وغيرها، وقد تكون لما يحيط بنا من بيئة كالبنى التحتية والفوقية ووسائل النقل والمواصلات وغيرها.
الرسوم: قد تكون رسوماً رسمية تتبع للدولة والمنظمات المحلية والعالمية أو خاصة.
الخرائط: السياسية والعسكرية وبعضها لأغراض بيئية واقتصادية واجتماعية وغيرها.
والمواد السمعية والمرئية، وغيرها كثير ممّا لا يسعنا حصره لكم في هذه المقالة، ولعلي أخصِّص له مقالات متتالية أمّا عن أهمية الوثيقة فهذا لا يخفى على أحد؛ لأنَّ الوثيقة الرسمية اليوم وغير الرسمية بأنواعها المختلفة هُوية وتاريخ وأساس تُبْنَى عليه أمورٌ كثيرة.
أهمية الوثيقة
عندما نسمح للوثيقة بالظهور فإنها ستكون أفضل مصدر لكتابة التاريخ والبحث فيه، فأي تاريخ يمكننا أن نعول عليه بلا وثيقة وبلا شواهد أو دليل يدلنا على صدق الخبر من كذبه، وقد مرَّ تدوين التاريخ بمراحل كثيرة حتى وصلت المدارس التاريخية الحديثة وأبعدته عن الحكايات والقصص الأسطورية والمواقف الساخرة، وأصبح بفضل العلم الحديث والنقد القوي البنّاء لعلم التاريخ ذاكرة حية للشعوب، ومادة علمية يجب أن يتمَّ التعامل معها بأمانة بالغة وحرص شديد.
هذا، وتمثّل الوثائق مصدراً مهماً للباحثين، ولكن مع وجود كثير منها مجهولاً أو مصاباً بالإهمال من أهله أو مدخراً مكنوزاً عند بعضهم) العائلات والمكتبات الخاصة وغيرها) حتى يضيع أو يتلف أو يصيبه ما يصيبه، ويضنّون به على أهل العلم، ونحن نعاني حتى نقنعهم بالكشف عن الوثائق التي بحوزتهم، وهذا عائق كبير للبحث والتدوين التاريخي. وقد يسأل سائل هل يمكننا الاعتماد على الروايات الشفوية، التي يتخلل بعضها كثيرٌ من المبالغات أو يعتريها النسيان من كبار السن، وهي ولا شكَّ مهمة لحفظ ذاكرتنا الحية، ولكنها لا تصل إلى مقدار الوثيقة التي لا يمكن الطعن فيها، إلا عند الكشف عن تزويرها ولهذا عند عدم توافر الوثائق هناك يمكننا الرجوع إلى الرواية الشفهية ويمكننا أيضاً تعزيز موقف الوثيقة والعكس صحيح، أمّا أن نترك الوثائق ونعتمد على هذه الروايات الشفوية فهذا خطأ لا محالة، وهناك أمثلة كثيرة على خطأ الروايات والتباس الأخبار على أصحابها أو نسيان أجزاء منها أو الكذب في بعض مجريات أحداثها.