2,623 عدد المشاهدات
تحقيق: مريم أحمد قدوري
تغصُّ مجالس الصيادين في إمارة دبي برجال أوفياء للمكان وللزمان، يجتمعون كلَّ يوم في جلسة أخوية، يتجاذبون خلالها أطراف الحديث عن البحر، ورحلة صيد اليوم أو الغد. عن التيار وعن القمر.. عن أسعار السوق ومناطق الصيد في تلك العشية.. على فنجان قهوة وتمر، أو طبق من الحمص أو الفول الذي يأتي به أحد الصيادين إلى المجلس، حيث يحلو الحديث ويطول إلى بعد صاة العشاء، ليتفرق بعدها الجميع على أمل اللقاء في اليوم التالي.
كلهم كهول، لا تجد ابن العشرين بينهم، أمَّا أبناؤهم ففي حياة مختلفة بعيدة عن البحر وتقلباته، لا يعلمون عنه شيئاً؛ لأنَّ ما سمعوه عن البحر بأنه متعب وهمومه كثيرة لا يعلمها إلا من يرتاده، جعلتهم يعزفون عن مهنة آبائهم وأجدادهم. لاحظنا الظاهرة، وتساءلنا كثيراً عن غياب أبناء الصيادين، من صغار السن في رحات الصيد مع آبائهم، وتساءلنا أكثر عن مستقبل مهنة الصيد في إمارة دبي في ظل هذا الغياب، واستضفنا في هذا التحقيق عدداً من الصيادين الذين أوضحوا لنا الأسباب، وأعربوا عن آمالهم في تدارك الكثير من الجوانب التي من شأنها أن تعزِّز استمرارية حرفة الصيد التي هي إرث الآباء والأجداد.
الوظيفة أفضل
وقد أوضح الصَّيَّاد سرور المعصم أنَّ الوظيفة الحكومية أو في القطاع الخاص أصبحت أفضل بكثير من مهنة صيد السمك، والشخص بإمكانه الحصول على دخلٍ لا يقل عن عشرة آلاف درهم من دون أيِّ شهادة علمية، وهذا ما لا يحصل عليه من البحر؛ لأنَّ الظروف جميعها تغيَّرت، وحتى من يدخل البحر تغيَّر، فقد أصبح الأجنبي هو من يستفيد من البحر؛ ففي مجموعة من الأجانب نجد مواطناً واحداً هو صاحب القارب، ودخوله إلى البحر موسمي مرتبط بصيد بعض الأنواع من السَّمك مثل الخباط والقرفة وغيرها، وما يجنيه من رحلة الصيد اليومية لا يغطي مصاريف البترول والخبز وأجرة العمال والصيانة وغيرها، بل إنَّ المستفيد الوحيد هو العامل الذي على الرغم من أجره الضعيف الذي يتقاضاه – بالنسبة إلينا – إلا أنه يساعده على إعالة عائلته في بلده، بل ويوفر منه قلياً للقيام بمشاريع مستقبلية في حال عودته إلى بلده.
وقال سرور المعصم: «لم يعد المواطن صاحب )المركب الكبير( يذهب إلى عرض البحر؛ لأنَّ رحلة صيده متعبة يتجاوز عدد أيامها عشرة أيام كحد أدنى، وهذه الأيام دخلها يتراوح بين عشرة إلى خمسة عشر ألف درهم، ولو نقسِّمها على ما نصرفه في تلك الأيام لوجدنا أنَّ الرحلة تأخد الثلث، والعمال الثلث، ويبقى لصاحب «المركب » الثلث، والمبلغ لا يتعدى خمسة آلاف درهم. فهل هذا المبلغ يستحق العناء وكل هذا التعب؟! وهل هو كافٍ لسدِّ احتياجاته الأسرية؟! طبعاً لا، وهل بإمكان هذه المهنة أن ترجع للصياد قيمة السفينة التي يقارب سعرها خمسمائة ألف درهم؟! المصاريف أصبحت تفوق الدخل، وفي أحسن الظروف متعادلة.
وأضاف المعصم: هناك دعم من قِبَل الجمعيات يتمثَّل في تزويد الصيادين بالحبال والجراجير بأسعار منخفضة عن أسعار السوق، كما أنَّ وزارة البيئة تمنح لأصحاب القوارب محركاتٍ كلَّ ثاث أو أربع سنوات؛ فا هو بالصيد الكافي ولا هو بالدعم الذي يشجعنا على توريث المهنة لأبنائنا، وأنا أُفَضِّلُ أن يعمل ابني مندوباً ولا يعمل في مهنة الصيد هذه.
كما أعرب المعصم عن خشيته من اندثار هذه المهنة، مثلما اندثرت المراكب أو البواخر الخشبية، التي كان عددها حوالي ألف مركب لمواطنين في دبي في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، تعمل في تحميل البضائع والركاب إلى إيران وباكستان والهند. أيامها، كان البحارة كلهم مواطنين وعمانيين، لكن اليوم أصبح الأجانب هم من يقودون السفن ويعملون بمفردهم، بينما ابتعد أبناء البلد، فمنهن من توفي، ومنهم من تخلى عن المهنة، ومنهم من ذهب للعمل في وظائف أخرى، ولم يتبقَّ إلا حوالي ثلاثين «مركبا » لا يزال مُّلَكها مستميون في المهنة وكلهم من كبار السن، لا يوجد فيهم شاب واحد، ولا يوجد أيُّ تشجيع لفئة الشباب من قبل الجهات المعنية حتى تستمر مهنة الصيد، وتبقى مكسباً ثقافياً وتراثياً وتاريخياً للمواطن، ونحن أيضاً كآباء لا نريد لأبنائنا أن يفنوا أعمارهم في مهنة لا يجنون منها إلا التعب.
دور ضعيف
فيما أكَّد الصَّيَّاد أحمد بخيت الفلاسي أنَّ مصير مهنة الصيد في دولة الإمارات متجه نحو الزوال؛ لأنَّ المهنة في وضعها الرَّاهن لا تبشِّر بالاستمرارية، وبمحافظة المواطن الإماراتي عليها، كما أنَّ المردود من رحلة الصيد أقلُّ من المصاريف أو يعادلها، وبالتالي هو هدر للجهد والوقت، ومن الأفضل أن يتوجه المواطن للعمل في أشياء أخرى أكثر نفعاً له ولأسرته.
وأضاف الفلاسي: نحن اليوم من يمثِّل هذه المهنة في دولة الإمارات، لكن على الجهات المعنية أن تركِّز اهتمامها أكثر على هذا الموروث الثقافي، وتدعمه بشكل يجعلها تستمر وتبقى من بعدهم لأبنائهم، وقال: «إنَّ الدعم الذي نتمنَّاه هو تفعيل دور جمعية الصيادين في عملية إدارة السوق وتوفير متطلبات ووسائل الصيد، المتمثلة في الحبال والشباك والجراجير والثلج والمحركات والكثير من الأشياء، فنحن نعاني من عملية التسويق ونتمنَّى أن تكون العملية من ضمن مسؤوليات الجمعية، لكن للأسف دور الجمعية ضعيف جداً، وحتى الدعم البسيط الذي تسهم به لا يناسبنا؛ فالمتطلبات التي سبق أن ذكرتها، نأخذها من الأسواق الخارجية بأسعار أرخص وبوجودة أعلى، وحتى بدفعات مقسطة .»
واستطرد الفلاسي قائاً: تعلَّمت المهنة من والدي، وحاولت جاهداً إدخال أبنائي إليها لكنهم لم يتقبلوها، وفضَّلوا العمل في وظائف ذات دخل مضمون وكافٍ، جرَّبوا معي في البداية لكن وجدوا أنها مهنة متعبة وفيها الكثير من المخاطر ولا سيما أثناء الدخول في المياه الدولية، وقتها يكون المواطن في خطر من قِبَل القراصنة الذين يتربَّصون به من بعض الدول المجاورة، كما أنه منذ عامين تمَّ إيقاف صيد سمك الشعري والصافي لمدة ثلاثة أشهر في السنة، بهدف منع الصيد الجائر وقت تكاثر ونمو الأسماك الصغيرة، لكن ماذا استفادت الحكومة إذا كان صيد نفس الأنواع من السمك مسموحاً طوال العام عند باقي دول الخليج الأخرى؟! كما أنه في فترة التوقف هذه من أين يكون دخل الصياد وهو ملزم بدفع أجرة عماله ومستلزمات أسرته وحياته اليومية؟! وعليه، أنا أرى أنَّ مستقبل هذه المهنة في ظل هذه الظروف سوف ينتهي بعد عقد أو عقدين من الزمن، إلا إذا كان هناك نشاط ودعم واستراتيجيات من قِبَل الحكومة تدعم بقاءها واستمراريتها. والدعم الذي نريده هو توفير ورش مجانية لصيانة القوارب التي تكلفنا على سبيل المثال دخل شهر كامل، لتصليح محرِّكٍ واحدٍ في حال تعطله، كما ينبغي أن يكون هناك دعم للبترول الذي يكلفنا نصف الدخل اليومي؛ فتكلفة الرحلة اليومية تكلِّف ألف درهم، وخمسمائة أخرى لمصاريف الخبز المستخدم في صيد السمك، ومصاريف أكل صاحب القارب وعماله، وقيمة الثلج، إضافة إلى ضريبة الدخول إلى سوق السمك، هذا غير المصاريف التي تترتَّب علينا أثناء تعطل أي قطعة غيار في القارب. يعترضنا الكثير من الصعوبات، واستمرارنا في البحر نابعٌ من حبِّنا له، وأولادنا إذا مارسوا الصيد فسيمارسونه كهواية وليس تجارة أو مصدر رزق أساسي؛ لأنَّ الصيد جزءٌ من تاريخنا، وجزءٌ من حضارتنا، وجزءٌ لا يتجزَّأ من شخصية الرجل الإماراتي.
مصدر رزق ثانوي
أمَّا الصَّيَّاد محمد خليفة ثاني المهيري فقال: «إنه يرغب في أن يمنح هذا الإرث الثقافي لأبنائه الذين من الممكن أن يعتمدوا عليه كمصدر رزق ثانوي، لكن لا يمكن اعتباره وظيفة أساسية في الحياة، ومع هذا لا يوجد أحد من أولادي في مهنة الصيد، وعزوفهم عنها واضح وكبير، حيث لديهم وظائف وهم في غنى عن البحر وشقائه، وأنا متقاعد من وزارة التربية والتعليم، وأعتمد على دخلي الحكومي لقضاء احتياجات بيتي وعائلتي؛ لأنني لو اعتمدت على البحر لما اكتفيت، وذلك لأنه في حدِّ ذاته يشكِّل تكلفة باهضة ومتطلبات لا تنتهي، وأنا أُفَضِّلُ أن أصرف هذه المبالغ على بيتي ولا أُضَيِّعها في البحر .»
وأكَّد المهيري أنه لم يستطع الابتعاد عن مهنة الصيد وقال: «كما سبق أن ذكرت، هي مصدر دخل ثانوي وإرث تناقلناه أباً عن جد، ونشعر بالولاء تجاهه ولانستطيع أن نتوقَّف عن ارتياد البحر مهما كانت الظروف.
وقال الصَّيَّاد عبيد محمد بن خلفان المهيري: إنه حاول ترغيب أبنائه في مهنة الصيد، لكنه لم يجد لديهم القابلية والميل نحوها، لذا رأى أنهم أحرار في اختيارهم وأنَّ الوظيفة أضمن لهم في ظل هذه الحياة الصعبة للعيش في راحة واستقرار، واستطرد قائاً: «في الماضي كانت حاجة الناس هي التي تدفعهم للعمل في البحر وتشغيل أبنائهم معهم، لكن اليوم، تغيَّرت الحياة وتوافرت الوظائف وارتفع مستوى الرفاهية، وأصبح الكل يسعى إلى عيش حياة كريمة بأقل الأتعاب .»
وأضاف: «من جهة أخرى هناك أسباب جعلت الناس تعزف عن هذه المهنة وتفضِّل العمل في مجالات أخرى، ومن بينها قلَّة الدعم الذي يقتصر على تزويد الصيادين بمحركات صغيرة الحجم لا فائدة منها، فيضطر الصياد لبيعها وشراء محركات أخرى أكبر حجماً، كما أنَّ هذا الدعم لا يكون إلا مرة كل سنتين أو ثلاث سنوات. وأوضح أنَّ وزارة العمل تأخد منهم الكثير من الرسوم المتعلقة بوثائق العمَّال وتجديد الرخص، وسوق السمك يستقطع منهم مبالغ الوقوف أثناء عملية تنزيل السمك من القوارب، وهذا ما يحبط الصياد، ويجعله يفكر في هجر هذه المهنة، رغم أنَّ ارتباطه بالبحر ارتباط حب، لذا فهو حريص على عدم التفريط في حرفة الآباء والأجداد، التي يقول إنه وجدها منذ أن فتح عينيه على هذه الدنيا، ولن يتركها إلى أن يموت، رغم الصوبات التي تعترضهم ورغم التعب الذي ينالونه منها، وختم قائلاً:
” نأمل أن يفكر أصحاب القرار بجدية أكثر مِنَّا في مستقبل هذا الموروث الثقافي، وأن تكون هناك خطط تنموية لاستمراره وتناقله عبر الأجيال اللاحقة، وسنعمل معهم على الحفاظ على هذه الحرفة إذا ما وجدنا لديهم الإرادة والدعم.