3,801 عدد المشاهدات
الكاتب : أ.جمال بن حويرب
الكلام عن الوثائق والتوثيق والموثقين ومادة هذه الحروف المهمة (و ث ق) لا يمكن أن يكون أمراً هيناً أو مما يمكن أن يستطيع الناس أن يغفلوا عنه لحظة؛ لأن حياتهم كلها مبنية عليه من عقار وزواج ودراسة وغير ذلك من حاجات الحياة التي تمر علينا كل يوم ونحتاج أن نوثقها لتكون ملكاً لنا، وإلا لضاعت وكان امتلاكنا لها غير مؤكد إلا بحضور الشهود.
لعلكم أيها الأعزاء تمر بكم مفردة (وثق) كل يوم ولكن لا تلقون لها بالاً، وهي في الحقيقة أهم مفردة نستخدمها في كل يوم، وإذا كانت هذه المفردة كثيرة الاستخدام فيجب أن يكون التوثيق في أوراق مصدقة من القضاة أو المحاكم أو على شكل عقود أو رسائل مرسلة من شخص إلى آخر لكي يتم الاستشهاد بها عند الحاجة إليها.
أين هي؟
السؤال الذي يطرح نفسه إذا كنا نستخدم هذه المفردة كثيراً، ولها أوراق تثبتها، فأين تذهب هذه الأوراق التي نسميها وثائق هذه الأيام؟
سؤال قد لا نستطيع أن نجيب عنه؛ لأنه لم يبقَ من وثائقنا عبر القرون الماضية إلا ما كان محفوظاً في الأرشيفات العالمية، وخاصة بريطانيا، فإنهم احتفظوا بكل ما وصلهم منا ونحن قد لا نحتفظ بوثائق مهمة كعقد الزواج اتكالاً على استخراج بدل الفاقد متى طلبت منا.. هل هذه هي الحقيقة؟
تاريخ الإمارات العربية المتحدة
نعم هي الحقيقة المرَّة؛ لأننا لم نعتد حفظ وثائقنا ومقتنياتنا المهمة، وقد مرت كل هذه السنون من عمر الاتحاد ونحن لم نعتد الحفظ بعد، ونخاف من تسليم هذه الوثائق للمركز الوطني للوثائق والبحوث الذي أُسِّس لهذا الهدف العظيم، وكان أول من أداره ورفع بناءه رجل عربي مؤرخ ومخلص، ليس من الإمارات، ولكنه ابن الإمارات ومؤرخها، هو الدكتور المؤرخ محمد مرسي عبد الله، رحمه الله، من جمهورية مصر الشقيقة، فدعونا نتعرَّف شخصيته ونعرف جانباً من سيرته.
قامة علمية
ولد الدكتور محمد مرسي عبد الله في الثامن عشر من ديسمبر من عام 1929 في مدينة بني سويف بجمهورية مصر العربية، وتبعد عن القاهرة 115 كيلومتراً جنوب القاهرة، ونشأ في أسرة مصرية مثقفة من الطبقة المتوسطة لأب كان يعمل ضابطاً في الشرطة، تدرج أيام الملكية في المناصب حتى وصل إلى منصب مأمور لعدة محافظات وكانت والدته شريفة من أشراف مصر، تفتخر بنسبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحمل أوراقاً رسمية تؤكد أنها تحمل لقب الشريفة، وحصلت لأولادها كلهم على اللقب رسمياً، فأصبح الدكتور محمد مرسي عبد الله يلقب بالشريف محمد مرسي عبد الله. وكان من حرص الوالدين على أبنائهما أنهما علما البنات جميعاً كالأبناء، وهو ما لم يكن متعارفاً عليه آنذاك.
التحق محمد مرسي عبد الله بكلية الهندسة في جامعة القاهرة لمدة عام، ثم قرر تركها والتحق بكلية الآداب؛ لأنه اكتشف أنه لم يُخلق ليصبح مهندساً، بل كانت له اهتمامات أدبية ورغبة لا تنطفئ للقراءة والمعرفة والكتابة، فاتخذ قراره بشخصية قوية، وحول أوراقه ودرس الآداب، قسم تاريخ، وهو ما أغضب عائلته آنذاك، ولكنهم مع الوقت تفهموا رغبته وقبلوها. وهذا الأمر يتكرر كثيراً، وينبغي أن نوجه أبناءنا لاختيار التخصص المناسب، ولا نرغمهم عليه، بل نتركهم وما يحبونه من الدراسة.
تطورات سياسية
عاصر الدكتور محمد وهو طالب جامعي الأحداث التاريخية في مرحلة التحول من الملكية إلى الجمهورية في جمهورية مصر العربية، وبعد تخرجه عمل مدرساً للمواد الاجتماعية، ثم موظفاً في قطاع السياحة في مصر، ومدرساً في بير زيت بفلسطين، ومديراً للمدرسة الثانوية في الدوحة بدولة قطر.
أخبرني معالي أحمد بن خليفة السويدي، حفظه الله، أن علاقته بالدكتور مرسي بدأت في قطر، عندما كان يدرس في المدرسة الثانوية، وذلك في العام الدراسي 1959 و1960 وقال: إن الدكتور كان يدير المدرسة بكل كفاءة.
في سنة 1961 عاد الدكتور محمد مرسي عبد الله إلى مصر، وبدأ يفكر في متابعة دراسته العليا حول تاريخ المنطقة؛ لأنه كما ذكر في إحدى كتاباته عن نفسه باختصار مني: اكتشفت بعد سفري أن التاريخ يكتبه الأقوياء في كل موقف وفي كل زمان، وأن تاريخ المنطقة إن تركناه للغرب يكتبه وحده، نكون بذلك قد ظلمنا أنفسنا، فأصبح هاجسي الأكبر أن أكتب التاريخ بشفافية لأحداث العالم العربي، وقررت تغيير مجرى حياتي، وبدأت أتدرج في المجال الأكاديمي والإعداد لرسالة الماجستير حول تاريخ الخليج العربي أثناء عملي مديراً للمدرسة الثانوية في قطر.
تحقق حلم الدكتور، ونال درجة الماجستير من جامعة القاهرة سنة 1965 وكانت رسالته بعنوان: “العلاقات بين الدولة السعودية وعمان”، وبسبب معرفته بتاريخ عمان وتخصصه فيه كانت وزارة الثقافة بسلطنة عمان تحرص على استضافته في مؤتمراتها التاريخية حول تاريخ عمان بعد ذلك.
بعد تولي والدنا الخالد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، سدة حكم إمارة أبوظبي، أراد أن يجمع تاريخ الإمارات ووثائقها، فأوكل هذه المهمة إلى معالي أحمد بن خليفة السويدي، فاختار لها الدكتور محمد مرسي عبد الله، الذي تخصص في تاريخ المنطقة، وكان مطلعاً على الأرشيف البريطاني والفرنسي والعثماني.
مكتب الوثائق
وقد تم إنشاء مكتب الوثائق والدراسات وأُلحق بالديوان الأميري للشيخ زايد بن سلطان في سنة 1968، وصدر تعميم في شهر أكتوبر سنة 1969 لجميع مديري الدوائر في إمارة أبوظبي من أجل التعاون مع هذا المكتب الجديد لحفظ وثائق نهضة الإمارة وعمرانها وتطور الحياة فيها كما جاء في التعميم.
قراءة حديثة في تاريخ دولة الإمارات
في هذه الفترة عرض الدكتور محمد على الشيخ زايد أن يسافر إلى بريطانيا لإكمال رسالة الدكتوراه، فشجعه الشيخ وأعانه على ذلك، فالتحق بجامعة كامبردج، وبدأ في رسالته التي كانت بعنوان: «الإمارات في الاستراتيجية البريطانية بين عام 1892-1939» وقد نال الدكتوراه في سنة 1975.
في سنة 1973 صدر مرسوم اتحادي من رئيس الدولة بتعيين الدكتور محمد مرسي عبد الله مديراً عاماً لمركز الدراسات والوثائق في ديوان رئيس الدولة، وبهذا يصبح المكتب المحلي مركزاً اتحادياً، وهذا بسبب الجهود المخلصة التي بذلها الدكتور محمد وبإشراف معالي أحمد السويدي.
في الأول من يوليو سنة 1978 تم نقل تبعية مركز الوثائق والبحوث إلى وزارة الخارجية بمرسوم من رئيس الدولة، وذلك ليبقى تحت إشراف مباشر من وزير الخارجية آنذاك معالي أحمد السويدي، الذي عرف عنه حرصه على التوثيق وحفظ الوثائق؛ فهو منذ صغره يسجل كل شيء عن الأحداث ويوثقها ولديه حرص كبير على ذلك، وليت الجيل الجديد يتعلم منه.
في عام 1981 تم تأسيس مجمع المؤسسات الثقافية والوثائق، وتم في ديسمبر نقل مركز الوثائق إلى هذه المؤسسة، وفي سنة 1982 تم تعيين الدكتور محمد مرسي عبد الله عضواً في مجمع المؤسسات الثقافية والوثائق برئاسة أحمد السويدي، وكان نائبه حمودة بن علي، رحمه الله.
في سنة 1984 صدر مرسوم من رئيس الدولة بتغيير مسمى مجمع المؤسسات الثقافية والوثائق إلى المجمع الثقافي.
كان الشيخ زايد يزور المركز، ويحب أن يطلع على الوثائق، ويكثر من الأسئلة؛ لأن التاريخ كان مهماً جداً لديه، ويعرف قيمته أكثر من غيره، رحمه الله تعالى.
في سنة 1999 تم ضم مركز الوثائق والدراسات إلى ديوان الرئاسة، وأصبح المركز تحت إشراف ومتابعة واعتناء كبير من سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، حفظه الله، لأنه على نهج والده، ولعلمه بأهمية التوثيق والتاريخ الكبرى، وقد تم تعيين الدكتور عبد الله الريس مديراً عاماً للمركز ليتابع مسيرة المركز الذي، صار اسمه اليوم: المركز الوطني للوثائق والبحوث، ويضم أهم وثائق الأرشيفات العالمية عن الإمارات والمنطقة، والتي قام بتأسيسها الدكتور محمد مرسي عبد الله، ويتابع مسيرتها الدكتور عبد الله، ولكن في مكان راقٍ فيه أحدث التقنيات وأفضل العاملين من الخبراء المواطنين وغيرهم.
مؤلفات قيمة
كان الدكتور محمد مرسي عبد الله كثير القراءة والمطالعة والسفر لحضور المؤتمرات العالمية، وكتب كثيراً من المؤلفات والأبحاث منها: “أبوظبي بين الأمس واليوم”، و”دولة الإمارات العربية المتحدة وجيرانها” و”الإمارات وعُمان والدولة السعودية الأولى“.
دولة الإمارات وجيرانها
و”قراءة حديثة في تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة في ضوء المخطوطات العربية والوثائق البرتغالية والهولندية والبريطانية والمكتشفات الأثرية الأخيرة” في ثلاثة أجزاء، وأعد خريطة أبوظبي الرسمية، وخريطة دولة الإمارات العربية المتحدة الرسمية، وكان عضواً في اتحاد المؤرخين العرب والأمانة العامة لمراكز الخليج، ونشر العديد من الأبحاث في المجلات المتخصصة عن الشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربي.
بعد مرور سنوات العمر في خدمة دولة الإمارات وجمع أرشيفها وكتابة تاريخها، توفي في الرابع من أكتوبر من عام 2005، رحمه الله تعالى وأدخله فسيح جناته.