الدكتورة لطيفة.. 43 عاماً في عشق الإمارات

أعلام الراوي مجلة مدارات ونقوش – العدد 24– 25

 4,066 عدد المشاهدات

قدمت إلى أرض الإمارات شخصيات لم تكن تتوقَّع أو تخطِّط للبقاء كثيراً، لكن مع الوقت ارتبطت بالمكان حتى صارت جزءاً منه، ومن حياة البشر وتاريخ المجتمع، هؤلاء لا يمكن أن تنساهم ذاكرتنا، أو تغفل عنهم وعمّا بذلوه للوطن. من الشخصيات التي حفرت حضورها بقوة في ذاكرة الإمارات، تحديداً في العين وأبوظبي، وربما لا يوجد أحدٌ من سكان العين إلا ويحتفظ لها بذكرى جميلة في ذاكرته، وبقدر من الحب في قلبه؛ هي «الدكتورة لطيفة»، أو الممرضة الكندية جرترود دايك، التي وصلت إلى أبوظبي عام 1962، وانضمت إلى أسرة مستشفى الواحة في العين؛ وهو أول مستشفى في المدينة. صحيح أنها لم تتزوَّج، ولم تنجب، ولكنها أمٌّ لآلاف الأطفال، إذ أشرفت على ولادة أعداد كبيرة من أبناء العين، بمن فيهم بعض أبناء المغفور له الشيخ زايد. ونظراً لحبها للإمارات، فإنها لم تغادرها عائدة إلى وطنها إلا في عام 2005. وبهذا تكون قد عاشت في الإمارات 43 عاماً تأقلمت خلالها مع حياة البدو والصحراء، وتطبَّعت بطباع نساء الإمارات، وتعلَّمت العربية واللهجة المحلية.

كتاب الواحة بمقدمة لمحمد بن زايد
كتاب الواحة بمقدمة لمحمد بن زايد
كتاب أيام لطيفة لهويدا عطا
كتاب أيام لطيفة لهويدا عطا

عملت جرترود، التي ولدت في 1934، 38 سنة في الإمارات، وانغمست في ثقافة بلدها الثاني وتراثه، حيث وجدت فيهما ثقافة ثرية وتراثاً رائعاً، كانت ممرضة مخلصة تعالج أفراد العائلة الحاكمة والأهالي في العين، وظفرت بحبهم واحترامهم. وقد مكّنها عملها في المستشفى من الاتصال اليومي بالمواطنين العاديين، وأقامت معهم صداقات وروابط حتى باتت تُعْرَف باسم «الدكتورة لطيفة»، هذا اللقب الذي كانت أهلاً له بما اتصفت به من طيبة ولطف في التعامل مع السكان، ورغم أنها ليست طبيبة ولا تحمل شهادة في الطب، إلا أنَّ خبرتها الطويلة وحبَّ الناس لها، وحبَّها الشديد لمدينة العين والحياة فيها، جعلت السكان يطلقون عليها لقب «الدكتورة لطيفة».

محطة البدء

بدأ مشوار جرترود المهني بعد أن أنهت دراستها عام 1960، حيث اشتغلت ممرضة في مستشفى صغير في كندا لسنتين، ثمَّ علمت أنَّ مستشفى جديداً هنا يطلب ممرضات، فجاءت إلى العين، ومنذ ذلك الوقت وقعت في غرام العين، وأعجبتها بساطة الحياة حينذاك، وزاد تعلُّقها بالمكان طيبة السكان وترحيبهم الدائم بها، وكذلك المعاملة التي كانت تجدها من قِبَل الشيوخ والحكّام.

تنبَّه الشيخ زايد مبكراً حينما كان حاكماً لمدينة العين والمنطقة الشرقية إلى ضرورة وجود خدمات صحية لعلاج مواطنيه من الأمراض التي كانت تفتك بهم، مثل أمراض السل والملاريا والتراخوما والطفيليات المعوية، علاوة على أمراض النساء والولادة التي تسبَّبت آنذاك في ارتفاع نسبة وفيات المواليد إلى نحو 50 في المائة، ووصول نسبة وفيات الأمهات إلى 35 في المائة. فكان قراره في نهاية الخمسينيات الميلادية باستدعاء طبيبة أمريكية مع زوجها لإنشاء أول عيادة طبية في العين وسائر إمارة أبوظبي.

وقدمت الدكتورة ماريان كينيدي Marian Kennedy وزوجها الدكتور بات كينيدي Pat Kennedy  إلى العين في مطلع عام 1960 وسرعان ما تبعهما الدكتور ستيت وزوجته الممرضة، ولاحقاً وصلت الممرضة الكندية جرترود دايك Gertrude Dyck التي عُرفت باسم «ماما لطيفة»، فيما أطلقوا على الدكتورة ماريان اسم «ماما مريم».

الدكتور كينيدي مع أسرته على رمال الصحراء
الدكتور كينيدي مع أسرته على رمال الصحراء

 

ونظراً لعدم وجود أماكن في تلك الحقبة لمزاولة العلاج وتقديم الخدمات الطبية، فقد بدأ الزوجان الطبيبان كينيدي عملهما فور قدومهما من تحت شجرة ظليلة، حيث نجحت الدكتورة ماريان بعد وصولها بيومين في إتمام عملية ولادة متعسرة لمواطنة أنجبت ولداً أطلقوا عليه اسم مبارك، فيما بلغ عدد حالات الولادة التي أنجزاها مع فريقهما الطبي نحو عشرة آلاف حالة خلال عشر سنوات.

راحت الأمور بعد ذلك تتطوَّر وتتحسَّن رويداً رويداً بفضل دعم الشيخ زايد من جهة، ورغبة سكان العين في تلقّي العلاج الحديث من جهة أخرى. فمن العلاج تحت شجرة إلى العلاج داخل «برستي» مصنوع من سعف النخيل وجريده، إلى العلاج داخل بيت عربي من الطوب والجص مطلي بالنورة البيضاء.

في هذه الأثناء، كان العمل يجري على قدم وساق لبناء مستشفى بالمواصفات الحديثة للمرة الأولى في تاريخ أبوظبي. ونعني بذلك «مستشفى الواحة» «نسبة إلى واحة البريمي»، الذي كان مستشفى خيرياً مبنياً من الطوب والأسمنت المسلح، تبرع الشيخ زايد بأرضه، وتمَّ افتتاحه في يناير 1964، أي قبل عقد كامل من افتتاح أول مستشفى حكومي متكامل في العين. غير أنَّ «مستشفى الواحة» ظل يُعرف عند الأهالي باسم «إسبيتار كينيدي» نسبة إلى الزوجين كينيدي. و«إسبيتار» كانت دارجة في لهجة الرعيل الخليجي الأول، وهي محرفة من مفردة Hospital الإنجليزية.

مستشفى الواحة في العين

تحكي لطيفة الكندية بشغف عن زمن تعود أيامه إلى أواخر شهر ديسمبر عام 1962 حينما قرَّرت وعمرها 17 سنة أن تحمل أغراضها وتأتي إلى العين لتؤدي خدمتها الإنسانية في مهنة الطب ممرضةً، ورغم أنها كانت على علم بظروف العين وقسوتها البيئية والاقتصادية في ذلك الوقت من خلال صور التقطها أحد الكنديين الذين عبروا المدينة، إلا أنها قالت لنفسها: «هذه هي المدينة التي أتمنّى الحياة فيها». كانت فتاة من أسرة تتكوَّن من ولدين وثلاث بنات لأب يعمل تاجراً في البقالة. اجتازت مراحل الدراسة الابتدائية والإعدادية بتفوُّق، التحقت بمدرسة التمريض التي تخرجَّت فيها عام 1960 ومارست مهنة التمريض في قرية صغيرة اسمها مانيتوبا.

مستشفى الواحة
مستشفى الواحة

تقول: في عام 1962 راودني الطموح في الرحيل عن بلدي، بعد أن أنهيت دراسة التمريض، لذا ذهبت إلى القنصلية الكندية وطلبت مساعدتي كي أعمل في الشرق الأوسط، فأشاروا عليَّ بالذهاب إلى لبنان، فقلت في نفسي ليست هناك مشكلة، ثمَّ عادوا وأبلغوني أنَّ هناك مستشفى اُفْتُتِحَ في الخليج العربي وهو أوَّلُ مستشفى في العين ويحتاج إلى ممرضات، فلما رأيت صور أبوظبي التي التقطها رسّامٌ كنديٌّ قلت «هذا هو مكاني».

عملية صنع الطابوق لبناء المستشفى بعد أن تهالك بسبب الٔامطار 1963

سحر البساطة

تروي لطيفة قصة وصولها إلى مطار البحرين الدولي، حيث حطّت طائرتها هناك، ثمَّ استقلت طائرة الخليج الصغيرة إلى دبي، حيث نامت ليلتين ببيت الضيافة التابع للجيش البريطاني في الشارقة، توجَّهت بعدها إلى دبي لتستقلَّ سيارة لاندروفر إلى العين في طريق طويل من الرمل لمدة 8 ساعات.

جويس برفقة بعض المرضى 1961
جويس برفقة بعض المرضى 1961
إحدى الزائرات وبجانبها دلة القهوة الموجودة دائماً عند مدخل عنبر الولادة 1963
إحدى الزائرات وبجانبها دلة القهوة الموجودة دائماً عند مدخل عنبر الولادة 196

وتحكي عن أول يوم لها في مدينة العين بعد رحلة الوصول إليها وتقول: هناك كانوا ينتظرونني في بيت المضيف، وكانت السيدة الأسترالية جويس مالوش في استقبالي، حيث أرسلها الدكتور باك كينيدي وزوجته الدكتورة مريم اللذان كانا مشغولين في عملية ولادة. وقد كان الدكتور كينيدي أول طبيب يعمل في العين، وكنت أنا أول ممرضة ترسل من كندا إلى الخليج.

تصف د. لطيفة مشاعرها، في بداية حضورها للمنطقة، قائلة: «كلُّ شيء شاهدته في الإمارات كان مختلفاً؛ الطقس والحياة والناس، كل شيء كان بسيطاً، كانت هناك بيوت من الطين ولها براجيل». وتضيف: «منذ وصولي إلى العين صارت لي علاقات قوية مع الناس، فهم طيبون وقلوبهم مليئة بالحب للجميع، يدعوننا دائماً إلى بيوتهم، وكنا نذهب لنبارك لهم في الأفراح».

وتصف الدكتورة لطيفة مستشفى الواحة، الذي كان مقراً لعملها؛ فتقول: «أراد حاكم العين الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان أن يوفِّر لشعبه الرعاية الصحية، ليخفِّفَ عنهم أعباء المرض، لذا حينما لم يكن في بداية الأمر للمستشفى مبنى خاص، أعطانا الشيخ زايد بيت المضيف، فكان هو المستشفى وهو المسكن، وكان هذا البيت يستخدمه الشيخ زايد لإقامة الضيوف الذين يتوافدون من خارج البلاد، وهو عبارة عن مبنى يقع في وسط العين، بالقرب من مدرسة النهيانية للأولاد.

وتضيف: «في بداية إنشاء المستشفى كان الناس متخوفين، لأنهم لم يعتادوا الأطباء والمستشفيات، وما كانوا يحضرون إلى المستشفى، لكن الدكتور كينيدي وزوجته كانا يتكلمان اللغة العربية، فكانا يزوران الناس ويقدمان لهم العلاج مجاناً، وكانا يداويان عيون الأطفال، وكان الصغار يتعافون بسرعة من الرمد والالتهابات، ونظراً للمعاملة الطيبة التي كان الناس يتلقونها منّا، تشجعوا على زيارة المستشفى لمعالجتهم، بعد أن كان المرضى يعتمدون في العلاج على الأعشاب، والوسم، والرقية».

حب العربية وأهلها

تتحدث لطيفة عن علاقتها بالمكان وتفاصيل الحياة فيه، مشيرة إلى حبها وتعلقها الشديد بالزي الإماراتي، فهو جميل ومريح، ومع الوقت اعتادت هذا الزي، كما زاد تعلُّقها به عندما وجدت أنَّ الناس كانوا يحبون أن يروها مثلهم، ويشعرون بأنها واحدة منهم.

وكانت الصعوبة الوحيدة بالنسبة إليها هي اللغة العربية، وهي مسألة مهمة من أجل التواصل مع المرضى، مما اضطرها للسفر إلى البحرين لتعلُّم اللغة العربية من خلال دورات تدريبية خاصة هناك، حيث إنَّ التعليم في الدولة حين ذاك لم يكن قد أخذ طريقه بشكل منتظم.

كانت النسوة يحملن قدور مياه ثقيلة على رؤوسهن ويمسكن بأخرى بأيديهن 1 197
كانت النسوة يحملن قدور مياه ثقيلة على رؤوسهن ويمسكن بأخرى بأيديهن 1971م
طفلة أحد موظفي المستشفى مع امرأة بدوية عند أطراف العين  1964
طفلة أحد موظفي المستشفى مع امرأة بدوية عند أطراف العين  1964م

ترافق حبها للعين وأهلها بحب اللغة العربية، فتعلَّمت اللهجة المحلية من أبناء المجتمع. بل كان لإتقان اللغة العربية واللهجة البدوية أثرٌ كبيرٌ في حبِّ الإمارات وعشقها، فبعد 5 سنوات فكَّرت د. لطيفة في العودة إلى موطنها كندا. تقول لطيفة إنها عادت إلى كندا بعد أن مكثت في العين 5 سنوات وعندما قررت البقاء لمدة سنة في كندا. تقول: لم أستطع؛ لأنَّ الشوق الذي كان يغمرني بالحنين إلى الإمارات كان أكبر من أي شيء، فعدت إليها سريعاً دون أن أكمل السنة الأولى وهي مدة إجازتي في كندا، رغم أنَّ معظم عبء العمل كان يقع على عاتقي، وخاصة بعد رحيل الدكتور كينيدي وزوجته د. مريم إلى أمريكا من أجل رعاية أبنائهما أثناء دراستهم الطب هناك.

سيدة من العين تزور المستشفى
سيدة من العين تزور المستشفى

 

في السنوات الأخيرة من عملها، عملت لطيفة بتدريس اللغة العربية واللهجة المحلية للموظفين والعاملين الجدد في مستشفى الواحة، إيماناً منها بأنَّ العلاقات الطيبة لن تنشأ بين طاقم المستشفى والأهالي إلا من خلال اللغة واللهجة الدارجة.

مرحلة تحوُّلات

جاءت الدكتورة لطيفة إلى الإمارات منذ العام 1962، قبل قيام دولة الاتحاد، حيث كانت الحياة بسيطة، والبيوت من الطين وسعف النخيل، والنساء يحضرن الماء من الأفلاج على رؤوسهن، والسوق عبارة عن غرفة صغيرة، ولم تكن هناك شوارع، وكان الطريق من دبي للعين يستغرق 8 ساعات، وحدث أن هطل المطر ذات مرة مما أدى إلى إتلاف سقف المستشفى، وانتقل بعدها إلى موقعه الحالي، بعد أن كان الشيخ زايد ــــ رحمه الله ـــ قد خصَّص له المكان بالقرب من قصره، وكانت غرفة تخزين الأدوية تحت الأرض من أجل الرطوبة.

وصلت جرترود دايك إلى إمارة أبوظبي، في وقت شهد العديد من التطورات المهمة في المنطقة، والتي أعقبت اكتشاف النفط واستغلال موارده، وكانت في موقع فريد سمح لها بأن تُسجِّل بعدستها أسلوب حياة في طور التحوُّل؛ فتركت تلك المجموعة الرائعة من آلاف الصور الفوتوغرافية، ووثائقها الشخصية التي لا تُقدَّر بثمن، وقد أهدتها إلى الأرشيف الوطني.

ذكريات ومذكرات

منذ قدومها إلى العين، كانت عدسة الدكتورة لطيفة شاهدة على أحداث كثيرة، إذ قامت بتدوين ذكرياتها بعنوان «الواحة»، ونشرتها مدعمة بالكثير من الصور والذكريات في مدينة العين عام 1995، رداً لجميل البلد الذي عدّته بلدها، وللشعب الذي عدّته شعبها، وفي المقابل، أُجْرِيَت معها العديد من المقابلات، وكُتِبَ عنها الكثير من المقالات؛ لأنها تمثِّلُ نبعاً ثرياً وصادقاً للذاكرة، فهي تسرد كثيراً عن الحياة في ماضي الإمارات.

لحظة سانحة لاستشارة عابرة من الطبيبة 6 196
لحظة سانحة لاستشارة عابرة من الطبيبة 6 196

 

ومن بقايا الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام كشاهد عيان عن تطوُّر دولة الإمارات والتي ترويها لطيفة عن مستشفى الواحة، أن إحدى النساء وضعت طفلها في شهره الثامن، مما اقتضى حجزه في المستشفى لعنايته، وكانت تلك المرأة تضطر إلى المجيء يومياً من أطراف مدينة العين لزيارة وليدها والاطمئنان عليه وإرضاعه، وكانت تضطر إلى اصطحاب باقي أبنائها، حيث كانت تضعهم على ظهر الحمار وتمشي مسافات طويلة على قدميها حتى تصل للمستشفى، وعندما ترى طفلها تنسى تعبها. ومن الذكريات الطريفة التي روتها لطيفة أنَّ أحد الأطفال كان يصرخ بشدة من الجوع على باب المستشفى، وقد فقدت أمه المصاصة التي توضع على زجاجة الحليب أثناء الرضاعة، والسبب في ضياع المصاصة أنَّ المعزة التي برفقة السيدة قد أكلت المصاصة، ونظراً لعدم إمكانية توفير مصاصة بديلة قررت الأم ذبح المعزة واستخراج المصاصة من معدتها وإعادتها إلى زجاجة حليب ابنها، وبالفعل تمَّ ذبح المعزة، وأخرجت المصاصة وتمَّ تعقيمها وتطهيرها، وتناول الطفل حليبه من رضاعته. فيما قامت السيدة بإعداد وجبة غداء من لحم المعزة للعاملين في المستشفى تقديراً لهم على جهودهم.

عاشت في الإمارات وتكلَّمت مثل أهلها ولبست زيهم التقليدي، كانت متمسِّكة بالعادات والتقاليد حتى إنها كانت تجيد اللهجة البدوية، ولا تخلو كلماتها أبداً من (ما شاء الله، الحمد لله، زين) وغيرها من المفردات، مما يدل على مدى اندماجها الشديد في البيئة الإماراتية الأصلية، وإن كانت ملامحها لا تخلو من بعض التقاسيم الكندية وأطلال الذكريات القديمة.

ولد على يدها بعض أبناء الشيخ زايد، والآلاف من مواليد مدينة العين، فسموا أبناءهم على اسمها، كانت تربطها صداقة شخصية بالشيخة سلامة والدة الشيخ زايد، وتمتلك الصورة الوحيدة لها التي قامت د. لطيفة بتصويرها من خلال عدسة كاميرتها.

صور نادرة

كان للممرضة جرترود دايك أو «ماما لطيفة»، ولدورها مكانة في نفوس مواطني العين، حيث إنها أمضت وسطهم وفي خدمتهم مدة 38 عاماً من خلال عملها في مستشفى الواحة ابتداءً من مطلع ستينيات القرن العشرين وحتى عام 2000. ونظراً لحبها للإمارات، فإنها لم تغادرها عائدة إلى وطنها إلا في عام 2005. وبهذا تكون قد عاشت في الإمارات 43 سنة تأقلمت خلالها مع حياة البدو والصحراء، وتطبعت بطباع نساء الإمارات لجهة الملبس والحلي، وتعلَّمت العربية واللهجة الدارجة، وسارت حافية القدمين، وأشرفت على ولادة أعداد كبيرة من أبناء العين بمن فيهم بعض أبناء المغفور له الشيخ زايد. لكن الأهم من هذا، أنها وثَّقت كلَّ حياتها في العين بالصورة؛ إذ كانت تهوى التصوير وتمارسه بشغف، فالتقطت صوراً نادرة لأماكن اندثرت وشخصيات رحلت عن دنيانا مثل المغفور لها الشيخة سلامة والدة الشيخ زايد التي ارتبطت بها بعلاقة شخصية.

وضعت الكاتبة الصحفية هويدا عطا كتاباً عن جرترود عنونته بـ «أيام لطيفة: سيرة حياة لطيفة الكندية التي عشقت حياة البدو». في هذا الكتاب نجد عبق الماضي والزمن الجميل، ومادة دسمة عن تاريخ الإمارات الطبي ممزوجة بسيرة هذه الممرضة التي أفنت زهرة شبابها في الإمارات. وهي سيرة تلخصها صاحبتها بالقول: «عندما جئت إلى الإمارات في أوائل الستينيات من القرن الماضي قلت في نفسي: هذا هو مكاني الآن، وشعرت بالرضا في داخلي، وشعرت بسعادة تغمرني رغم قساوة الجو، لكن الحياة كانت بسيطة للغاية، فالبيوت تبنى آنذاك من الطين وسعف النخيل.. والأهم من ذلك أنَّ المجتمع الإماراتي كان يتمتَّع بالطيبة ولا يشتكي، ويتميَّز بكرم الضيافة، لذا أحببت هذه الديار، وتحقَّق الحلم، وفعلاً وجدت في نفسي دافعاً للثبات، وأن أهب نفسي لخدمة الناس وإسعادهم».

تقول لطيفة الكندية: «عشقت البدو وحياتهم واندمجت وعشت معهم وعشت واقعهم وأحلامهم وأعرافهم، وكل ما يحيط بهم من بساطة في العادات والتقاليد».

الشيخ زايد مع أبنائه الشيخ محمد )في الوسط( والشيخ حمدان يميناً والشيخ هزاع يساراً 1970
الشيخ زايد مع أبنائه الشيخ محمد في الوسط  والشيخ حمدان يميناً والشيخ هزاع يساراً 1970

الدكتورة لطيفة والشيخ زايد

تتحدث لطيفة عن الشيخة سلامة والدة الشيخ زايد قائلة: إنها كانت تتصف بتواضع شديد وكانت امرأة ذكية وطيبة وحكيمة، وهي بنفسها كانت تعالج الناس من أمراض مختلفة وكثيرة، وتحل المشكلات الاجتماعية، وكانت محبوبة بشكل كبير من الناس. وتقول د. لطيفة مؤكدة عرفانها بالجميل لما تعلمته من «أم الشيوخ» الشيخة سلامة والدة الشيخ زايد من احترام العادات والتقاليد والأخلاق. وذات يوم كانت د. لطيفة قد تعلمت بعض الكلمات البدوية وقد جلست إلى الشيخة سلامة ونطقت بها أمامها، فإذا بالشيخة سلامة تضحك سائلة: من أين تعلمت هذه الكلمات؟ تصف لطيفة الشيخة سلامة بأنها كانت امرأة رائعة وذكية وربَّت أبناءها على الأخلاق الفاضلة، وظلت تعلمهم حتى آخر لحظة من عمرها.

تقول لطيفة إنها رافقت الشيخ زايد والشيخة فاطمة في رحلاتهما إلى الدول الأوروبية؛ إمَّا للعلاج أو الترفيه، فقد رافقت الشيخ زايد في رحلة علاجه إلى أمريكا ولندن، وذلك لمعرفتي باللغة الإنجليزية والترجمة من العربية إلى الإنجليزية وبالعكس، وكنت أقوم بعملي على أكمل وجه في هذا الجانب، وخاصة في مساعدة الشيخات ومرافقتهن طوال الرحلة.

وتقول لطيفة إنها التقت الشيخ زايد آخر مرة عام 2002 حيث اصطحبت بعضاً من رفيقاتها وذهبت لتسلم على سمو الشيخة فاطمة وتهنئتها بعيد الاتحاد، وأثناء ذلك رأت المغفور له الشيخ زايد يجلس في أحد الممرات الواسعة مع أبناء وبنات ابنه سمو الشيخ حمدان، ويتحدث معهم فذهبت إلى الخادمة وطلبت منها أن تسلم عليه فأخذت منه الإذن وذهبت مع رفيقاتها. وتضيف: فرحب بنا قائلاً: مرحباً لطيفة كيف حالك. ثم جلسنا وأخذ يتحدث معي عن أحوال مستشفى «الواحة» والدكتور كينيدي والدكتورة مريم، وكانت سمو الشيخة فاطمة دائماً عندما تراني تسألني عن الدكتورة مريم.

إنسانية وتواضع

وتتحدَّث لطيفة عن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان قائلة: «سمو الشيخ محمد بن زايد، لم أشرف على ولادته… هو إنسان طيب ومتواضع بشكل كبير، وله مكانة ومعزة كبيرة في قلوب العاملين في المستشفى، وأتذكر أنه عندما كان صغيراً كان يأتي ليبقى بعض الوقت مع أولاد د. كينيدي ود. مريم في المستشفى، حيث يوجد مكان خاص بالشيوخ «مجلس الشيوخ» خلف المستشفى. وكان يأتي سموه دائماً إلى هناك. وعندما أقمنا حفل افتتاح المستشفى دعونا أولاد الدكتور كينيدي الذي كان قد توفي منذ سنوات، وقد جاء ابنه الدكتور سكوات من الأردن حيث يعمل هناك وطلبنا من الشيخ محمد بن زايد أن يقوم بالافتتاح، وعندما رأى د. سكوات فرح كثيراً، حيث استعاد ذكريات الطفولة وكنا جميعاً نتوقع أن يأتي سموه ويصافحنا ويمكث لمدة 5 أو 10 دقائق بالكثير ثمَّ يغادر، لكنه ظل لمدة ساعة كاملة وهو يتحدث معنا ومع الدكتور سكوات، وعادت بي الذكريات إلى الأيام الأولى التي كنت أرى فيها الشيخ محمد مع د. سكوات في طفولتهما. وأتذكر أني يوم الافتتاح كنت أعاني من آلام في قلبي وذهبت إلى مستشفى «توام» لأخذ حقنة مثبتة لضربات القلب، واتصلوا بي وأنا هناك وقالوا لي لا بدَّ أن تحضري الافتتاح المهم، فقلت لهم سوف أحضر، وبالفعل ذهبت وشاهدت هذه الواقعة الإنسانية التي ذكرتها، لكنني كنت أحاول طوال الحفل ألا أظهر مكان الحقن الواضح في يدي، وأيضاً حاولت أن أسلم على الشيخ محمد من بعد حتى لا يرى يدي. لكن سموه طلب مني أن أقترب وهنا انكشفت يدي وظهر مكان الحقنة، وقد عاملني سموه بالإكرام والاحترام أمام الحضور».

كيندي لمنصور الظاهري غلاف رواية زايد والمبشر
كيندي لمنصور الظاهري غلاف رواية زايد والمبشر

 

وتقول: «كان تقديري الشديد لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد هو دافعي للذهاب إلى بيته في أبوظبي قبل سنوات، وقابلت قرينته وطلبت من سموها أن أقابل الشيخ محمد فقالت لي: استيقظي مبكراً في حوالي الساعة الثامنة صباحاً وتعالي فوراً وستجدين الشيخ زايد والشيخ محمد ينزلان من هذا الدرج. وبالفعل كنت هناك في الساعة الثامنة بالضبط وقابلته، وقلت له: طال عمرك أنا أريد من سموك أن تكتب لي مقدمة كتابي «الواحة»، فرحب كثيراً بالفكرة وأظهر سعادة بالغة وراحة كبيرة، ثم قال لي: بعد أن تنتهي من إعداده أعطني إياه حتى أعرف كيف سيكون شكله ومضمونه وبعدها سأقوم بكتابة المقدمة. بالفعل قام سموه بكتابتها، وقد كان هذا شرفاً كبيراً لي أسعدني كثيراً».

رحيل «لطيفة»

منحت الحكومة الكندية جرترود دايك وساماً من أرفع الأوسمة الكندية: «وسام كندا»، وميدالية اليوبيل الذهبي للملكة إليزابيث الثانية، تقديراً لجهودها المخلصة، وما قدمته من خدمات لشعب الإمارات؛ فكرَّمتْها هيئة الصحة تقديراً لخدماتها. وأمضت جرترود سنوات تقاعدها في كندا، وظلَّ أسلوب حياتها متأثراً جداً بعادات الإمارات وتقاليدها حتى وافتها المنية.

وإثر وفاتها في 17 أكتوبر 2009، وبالنظر إلى مكانتها فقد شارك ثلة من أبناء الإمارات في تشييع جنازتها، وكان في مقدمة المشاركين في مراسم دفنها وتأبينها السفير الإماراتي لدى كندا محمد عبدالله محمد الغفلي. وفي 29 نوفمبر 2010، منح صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، وسام الاستقلال من الطبقة الثالثة إلى اسم الممرضة الكندية الراحلة جرترود دايك، تقديراً لجهودها في خدمة القطاع الصحي، وقد تسلَّم الوسام عميد أسرة الراحلة إرنست دايك.

أصدرت إدارة مستشفى الواحة، في العين، بياناً نعت فيه الممرضة جرترود دايك، عقب وفاتها في موطنها الأصلي كندا، عن عمر يناهز الـ75. وأشارت إدارة المستشفى إلى أنَّ جرترود دايك قَدِمت للعمل في مستشفى الواحة عام 1962 ممرضة شابة من بلادها، لخدمة مجتمع مدينة العين لمدة 38 سنة، حيث عملت جنباً إلى جنب مع الدكتور بات كينيدي وزوجته الدكتورة ماريان كينيدي، اللذين أسَّسا مستشفى الواحة عام 1960. وقالت إدارة المستشفى: «على يديها تمَّت ولادة أعداد لا تحصى من أطفال أسر الإمارات»، لافتة إلى مهاراتها في التمريض، وطلاقتها في اللغة العربية، وحبها لثقافة ومجتمع دولة الإمارات، ما أكسبها ثقة الأهالي، حيث يفخر العديد من العائلات المواطنة، حتى يومنا هذا، بأنَّ من أشرفت على ولادة أطفالهم هي الدكتورة لطيفة، وأنَّ العديد من أصحاب السموّ الشيوخ قد تمَّت ولادتهم أثناء وجودها في المستشفى. وأشار البيان إلى أنه على الرغم من عودتها إلى كندا بعد تقاعدها، فإنَّ قلبها ظلَّ معلقاً بحبِّ الإمارات، وكان منزلها في كندا يزخر بالصور والكتب والتذكارات، والأشياء التي تذكّرها بالسنوات الرائعة التي قضتها في الإمارات.

قاعة خاصة

أفرد الأرشيف الوطني جناحاً في قاعة الشيخ زايد بن سلطان الكائنة بمقره لمقتنيات الممرضة الكندية جرترود دايك، المعروفة بـ«الدكتورة لطيفة»، وذلك على ضوء توجيهات سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير شؤون الرئاسة، رئيس مجلس إدارة الأرشيف الوطني، وهي مقتنيات وصور نادرة قدَّمتها أسرة الراحلة «الدكتورة لطيفة» هدية للأرشيف، وتحكي هذه الصور والمقتنيات مرحلة حيوية من تاريخ أبوظبي والدولة، واهتمام الشيوخ بالقطاع الصحي.

أرقام وأحداث

38 عاماً قضتها الدكتورة لطيفة منذ أن جاءت إلى العين، وعملت فيها بمستشفى الواحة.

كتاب الواحة: ذكريات «الدكتورة لطيفة» في العين

وثقت الممرضة الكندية جرترود دايك (الدكتورة لطيفة) تجربتها في العين عبر كتاب نُشِرَ للمرة الأولى عام 1995 باللغة الإنجليزية، وقدم له صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، الذي أشاد بجهود جرترود دايك، حيث جاء في مقدمة الكتاب:

«يسرُّني أن أثني على الدكتورة لطيفة وأشكرها على إخلاصها ونفاذ بصيرتها خلال إعداد هذا الكتاب القيم. من المؤكد أن وصفها الأدبي ومختاراتها من الصور ستكون موضع تقدير أبناء مدينة العين ودولة الإمارات العربية المتحدة، خاصة أولئك المرتبطين بمستشفى الواحة. فالرعاية الطبية السليمة في دولتنا تمثِّل مكوّناً رئيساً من مكوِّنات مساعيها لتوفير مستوى معيشة عال. ومن خلال تدوين الأحداث التي أحاطت بمستشفى الواحة، كانت للدكتورة لطيفة مساهمة مهمة ومفيدة المجتمع الطبي ولكل المهتمّين بتطوير هذا البلد وتقدمه على حد سواء».

وفي مطلع كتابها خطّت الدكتورة لطيفة إهداء قالت فيه:

«إلى كل أبنائي الذين ولدوا في مستشفى الواحة وأبنائهم، إلى شباب وشابات هذا الجيل الذين حملوا تراث التغيير والتطوُّر، وورثوا مسؤولية تأييد المعايير وتحقيق الأحلام التي رسمها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، لمدينة العين ولدولة الإمارات».

من أكوام الثلج إلى كثبان الرمال

تتحدث «الدكتورة لطيفة» عن شعورها عند الانتقال إلى الإمارات قائلة: «على الرغم من أنني جئت من مروج كندا الشاسعة، ولم تكن رمال أبوظبي وسهولها غريبة عني، إلا أنني كما اعتدت أكوام الثلج في الشتاء هناك اعتدت هنا كثبان الرمال. وبالطبع كان هناك أيضاً فرق كبير في درجة الحرارة. فعندما وصلت إلى هنا أدركت أن شبه الجزيرة العربية ليست مجرّد رمال فحسب، بل تزيّنها واحات جميلة كواحة العين».

وتضيف في وصف أبناء الإمارات: «كم تساءلت عن شكل النساء هناك، حتى إنني أحضرت خماراً أسود مفتوحاً عند العينين لأشبه النساء اللواتي رأيت صورهن وأحاول أن أفهمهن قبل أن أغادر وطني. كان والدي متردداً ومن الصعب عليه أن يتركني أذهب إلى مكان بعيد وحدي. فقد قال لي مرة: أحتاج إلى مكبّر لأجد موقع الإمارات المتصالحة تلك على خريطة العالم، لكن جاءت رسائل الموظفين هناك لتؤكد له أنهم سيعتنون بي وحينها فقط وافق على سفري».

واحة الصحة والازدهار

تعلم «لطيفة» مدى أهمية العناية الطبية في المنطقة، إذ تؤكد أنَّ البدء بتقديم الخدمات الطبية يعدُّ حاسماً لسكان العين وقادراً على تغيير مسيرة حياتهم تاريخياً بقدر ما حقَّقه اكتشاف النفط وتصديره بالنسبة إلى دولة الإمارات بكاملها. فالثروة من دون صحة، لا فائدة منها.

وفي الكتاب توثِّق مراكز العناية الصحية التي تأسَّست في الإمارات، حيث تقول: «حتى عام 1960 لم يكن هناك أي مستشفى كما هي حال إمارة أبوظبي. كان هناك مستشفى آل مكتوم في دبي في خمسينيات القرن العشرين، ومستشفى سارة عثمان وهو بالدرجة الأولى مستشفى للتوليد في الشارقة، إلى جانب ردهة توليد صغيرة رأس الخيمة. وكان د. مكاولي من مستشفى آل مكتوم يذهب إلى أبوظبي من وقت لآخر لرؤية بعض المرضى. وفي عام 1971 تمَّ افتتاح مستشفى راشد في دبي. وبدعوة من الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والشيخ شخبوط، تمَّ افتتاح مستشفى الواحة في العين في نوفمبر عام 1960، تلاه افتتاح مستشفى العين عام 1968 ثمَّ مستشفى توام عام 1979، وقد وفرت جميعها الرعاية لجميع ساكني العين. وكم كانت فرحة عظيمة عندما شهدت العين عام 1994 تخريج الدفعة الأولى من طلاب كلية الطب وجامعة العين، وفي سبتمبر 1993 افتتحت أول كلية تمريض في العين».

أم الشيوخ

أفردت جرترود دايك في مذكراتها حيزاً خصَّت به الشيخة سلامة بنت بطي أم الشيوخ، عبرت فيها عن شدة إعجابها بالشيخة سلامة ومدى تعلُّمها من شخصيتها. فقالت في كتابها:

«كانت الشيخة سلامة بنت بطي القبيسي، التي أطلق عليها لقب أم الشيوخ تكريماً لها، أي أم حاكمي البلاد -دون أدنى شك- إحدى أعظم النساء في هذه البلاد. تنحدر أصولها من عائلة الفلاحي، القبيسي من جهة والدها ومن عائلة سلطان من جهة والدتها. والدها هو بطي بن خادم القبيسي ووالدتها موزة بنت حامد السلطان، وقد ولدت نحو عام 1890وتوفيت عام 1970. عندما قابلتها للمرة الأولى، أعجبت بجلستها الملكية ولطفها على الرغم من أنني لم أكن أفهم ما تقوله، لأنني لم أكن أفهم اللغة العربية في ذلك الحين. كانت لطيفة وبشوشة الوجه وراضية، وقد عرفت في كل البلاد بلطافتها وكرمها، كانت النسوة يأتين إليها طلباً للنصح والمشورة في الأمور العائلية والمشكلات الصحية. وكانت بالنسبة إليهم القاضية والطبيبة والأم. كانت تراقب أمور العائلة ليس بقبضة من حديد بل بدافع الإخلاص والحب.

كانت الشيخة سلامة تصحِّح لنا أخطاءنا في اللغة العربية بكل صبر، لكنها كانت تضحك معنا على تلك الأخطاء وحتى في الوقت الحاضر عندما أستخدم بعضاً من جملها يقف الزملاء العرب وينصتون لي ويسألونني «كيف تعلمت ذلك؟» ما زال البعض منهم يتذكرون تلك الكلمات والمقولات.

كان المغفور له الشيخ زايد، يأتي لزيارتها كل يوم تقريباً، وبالتالي كان بالنسبة إلينا امتيازاً أن تتاح لنا فرصة الجلوس معه هناك، كما كنا نفعل عندما كانت في المنزل.

أتذكر بشكل خاص إحدى الليالي في عام 1970 عندما كان المغفور له الشيخ زايد والشيخ طحنون هناك معاً بصحبة الشيخ شخبوط؛ حين بدؤوا بإلقاء قصائدهم البدوية أو «القصيد». كانت متعة حقيقية بالنسبة إليهم وكذلك لوالدتهم طبعاً، خاصة عندما يلقون تلك القصائد على مسامعها.

كان للشيخة سلامة فضل تربية أولادها الأربعة، شخبوط وهزاع وخالد وزايد وابنة واحدة، كما كان لها أثرٌ في مسيرتهم. تولى اثنان منهم، وهما شخبوط وزايد حكم إمارة أبوظبي قرابة 70 عاماً. تزوجت ابنتها المرحوم الشيخ محمد بن خليفة بن زايد.

أنعم الله على الشيخة سلامة بالحكمة، ولذلك كان جميع أولادها يستشيرونها. كانت سعيدة بتولي المغفور له الشيخ زايد سدة الحكم في عام 1966. وفي السنوات الأولى من حكم الشيخ زايد، كان يقضي جلَّ وقته في العين، حيث كان يزور والدته كل يوم تقريباً. وكانت تنتظر زياراته بشوق لتعلم أخبار الدولة، والتمتُّع بأحاديثه المرحة وبضحكاته. كانت زيارته بالنسبة إليها تبعث فيها الحياة والفرح كأشعة الشمس.

عندما توفيت الشيخة سلامة في أكتوبر 1970، نعتها الدولة بكاملها. فقد كانت وفاتها إعلاناً لنهاية عصر، ورحيلاً لإحدى نساء الدولة العظيمات».