الخليج العربي خلال الألفين الرابع والثالث قبل الميلاد

block-2 مجلة مدارات ونقوش - العدد 1

 2,549 عدد المشاهدات

مدارات ونقوش – دبي

يعدُّ كتاب “منطقة الخليج العربي خال الألفين الرابع والثالث قبل الميلاد“ للمؤلف سليمان سعدون البدر، الذي صدر عن مطبعة حكومة الكويت سنة 1974 ، بحثاً متميزاً وتراثاً أدبيّاً ثريّاً حول تاريخ حضارة الإنسان في منطقة الخليج العربي ومنطقة الشرق القديم، اعتمد فيه الباحث على عدد من الدراسات النظرية والميدانية، وطبق عليه المنهج التاريخي الذي يعدُّ وسيلة علمية مجدية في التأكيد على أهمية الأحداث التي حصلت في الماضي، من خال تأثرنا بها في أطرها الزمانية والمكانية المختلفة، حتى نفهم الكثير من الأحداث التي نمر بها في وقتنا الحاضر.

أوضحت الدراسة خصوصيات العديد من الحضارات التي كانت محيطة بمنطقة الخليج العربي، والتي كانت على اتصال حضاري معها، وأهمها حضارة باد الرافدين في المنطقة الجنوبية، التي تميزت بثاث مراحل حضارية مهمة تمثِّل عصور ما قبل التاريخ؛ هي مرحلة عصر حضارة العبيد، مرحلة عصر حضارة الوركاء، ومرحلة عصر حضارة جمدة نصر.

المراحل الثلاث

في المرحلة الأولى توصَّل إنسان المنطقة إلى الاستقرار، ثمَّ إلى الإنتاج الصناعي، وشكَّل تفكيره الإنساني بالتماثيل الطينية وتشييد المعابد للقوى الإلهية التي آمن بها، ففي مجال الصناعة توصَّل إلى صنع الأواني الفخارية، التي تحمل زخرفة تتمثَّل في الأشكال الهندسية، كما توصَّل إلى صناعة الأختام الانطباعية التي وجد فيها مجالًا فسيحاً لتسجيل أفكاره، وذلك باستخدام النقوش الخاصة. وتتمثل حضارة العبيد في العديد من المواقع الأثرية مثل أريدو وأورا والعبيد وريدو شرقي وغيرها.

أمَّا في مرحلة الوركاء، فقد نشأت ظروف جديدة أدت إلى انتقال الإنسان إلى مرحلة حضارية جديدة مع احتفاظه ببعض مظاهر الحياة السابقة. وفي هذه المرحلة استمر فخار حضارة العبيد لفترة، ثمَّ ظهر الفخار الغامق للون الذي يتراوح بين النعومة الكاملة والنعومة المتوسطة، ثمَّ أصبح الفخار الأحمر هو الشائع، وقد ضمت جميع المواقع الأثرية مخلفات الإنسان المنتمية إلى عصر حضارة الوركاء. وقد اختلفت المدارس العلمية في تحديد هذه المرحلة، ويرى الباحث استناداً إلى الدراسات المختلفة، أنَّ مرحلة الوركاء تبدأ من الطبقة الرابعة عشرة من طبقات معبد «آي-أنا » حتى الطبقة الرابعة من المعبد ذاته، ومن أهم المخلفات الأثرية إلى جانب الأواني الفخارية والأواني الحجرية تلك التماثيل الحيوانية والإنسانية التي تشير إلى الدقة في فن النحت، كما تتمثل هذه المخلفات في العديد من المعابد مثل «زقورة أنو »، و «أي- أنا » والمعبد الموزائيكي. وفي هذه المرحلة تظهر الأختام الأسطوانية لأول مرة، ويمثل أقدم انطباع لأقدم ختم أسطواني في الطبقة الخامسة والطبقة الرابعة من «آي- أنا » في موقع الوركاء. وقد عثرعلى العديد من الأختام الأسطوانية المنتمية إلى حضارة الوركاء في العديد من المواقع الأثرية.

ومن أهم ما تميزت به هذه المرحلة أيضاً، أولى المحاولات الإنسانية في الكتابة، حيث استطاع إنسان حضارة الوركاء أن يتوصل إلى التعبير بالرموز، التي كانت عبارة عن مجموعة من الرسوم المبسطة تطورت لتصبح في المراحل اللاحقة ممثلة في الكتابة بالخط المسماري.

أمَّا مرحلة حضارة «جمدة نصر ،» فتعدُّ من أهم مراحل عصور ما قبل التاريخ، حيث تبلور خلالها النشاط الفكري، وتطور النشاط الاقتصادي والنشاط الصناعي. وفي هذه المرحلة انتشر نوع من الفخار تميز بتعدد الألوان، وأصبحت الزخرفة تتمثل بالخطوط والأشكال الهندسية الملونة باللون الأحمر والأسود، كما بدأت تظهر الزخرفة المتمثلة في الأشكال الحيوانية، وظهرت الأواني الحجرية المزخرفة بالنقش البارز أو باستخدام الصدف، وظهرت الأواني المعدنية. وفي مجال التماثيل فقد عثر على تماثيل إنسانية، وأخرى حيوانية تمثل المستوى الفني الذي توصَّل إليه إنسان حضارة «جمدة نصر »، وقد استخدم ذلك الإنسان الأختام الأسطوانية التي تعبر عن مفاهيمه وتفكيره بما تحمل من نقوش.

وتجدر الإشارة هنا إلى وجود التشابه الكبير بين المخلفات الإنسانية المنتمية إلى عصر حضارة «جمدة نصر »، وبين تلك المخلفات التي عثر عليها في الكويت والبحرين.


استقرار وتطور

أمَّا بالنسبة إلى القسم الغربي من الخليج العربي، الذي كان يضم الكويت والبحرين وشرق الجزيرة العربية والإمارات العربية المتحدة، فقد تميز بإنتاجه الحضاري المحلي والذي تأثر إلى حد ما بالحضارات الأخرى، وقد دلت الآثار على وجود الاستقرار في جزيرة فيلكا في الكويت منذ بداية الألف الثالث قبل المياد، وكان لموقع الجزيرة على الطريق التجاري البحري أثره الكبير في اتصال المراكز الحضارية في المنطقة مع بعضها، ومع المراكز الحضرية في وادي السند، ومما يدل على ذلك وجود الأختام الأسطوانية التي تميزت بها باد ما بين النهرين، والأختام المربعة التي تميزت بها حضارة وادي السند.

أما البحرين فهي من أغنى المراكز الحضارية في المنطقة، حيث عثر على العديد من المخلفات الإنسانية المتمثلة في الأواني الفخارية والأختام والعمارة الدينية وغيرها، وتعرف حضارة البحرين القديمة باسم حضارة «باربار » نسبة إلى موقع باربار.

أما شرق الجزيرة العربية فيرى الدارس أنها كانت تمثل نشاطاً تجاريّاً مهمّاً أكثر من كونها مراكز حضارية مستقلة، وذلك استناداً إلى النشاط التجاري الذي تميز به سكان المنطقة في العصور القديمة، كذلك يمكن القول بأن هذه المنطقة ضمَّت العديد من المخلفات الأثرية المنتمية إلى حضارة العبيد لدرجة تثير التساؤل فيما إذا كانت أصول حضارة العبيد نفسها تعود بجذورها إلى هذه المنطقة.

وتأتي دولة الإمارت العربية المتحدة؛ إذ تمثِّل مواقعها الأثرية طرازاً فريداً، حيث توجد مخلفات أثرية تتشابه مع آثار حضارة العبيد، وآثار «جمدة نصر » جنوب باد الرافدين، وآثار حضارة كولي في وادي سند.

وتنفرد المواقع الأثرية بوجود المدافن الدائرية التي تنقسم من الداخل إلى حجرات دفن وممرات.

أما بالنسبة إلى القسم الشرقي من الخليج، والذي يتمثل بإقليم فارس في إيران، فقد تركزت الدراسة فيه على موقع «باكون ،» مع الإشارة إلى المواقع الأثرية الأخرى. وقد توصَّل الإنسان في هذه المنطقة إلى صناعة الأواني الفخارية التي تؤرخ بالألف الخامس قبل المياد، والتي تحمل أنماطاً من الزخرفة الفريدة من نوعها في بعض نماذجها، وتتشابه مع زخرفة فخار حضارة العبيد في نماذج أخرى. كذلك قام إنسان حضارة «باكون » بتشكيل التماثيل الإنسانية والحيوانية، واستخدام الأختام التي تتميز باتخاذها شكل الزر وبزخرفتها الخاصة.

تصنيف وتفسير

وفي مجال التصنيف الحضاري والتفسير التاريخي المقارن للمادة الأثرية، فقد ثبت أنَّ أقدم مراحل الاستقرار في القسم الغربي من الخليج يتمثَّل في شرق الجزيرة العربية، وذلك استناداً إلى المخلفات الإنسانية التي عثر عليها حتى الآن، كما ثبت أنَّ أقدم مراحل الاستقرار في القسم الشرقي من الخليج يتمثل في حضارة باكون في إقليم فارس في إيران. أما بداية العصر التاريخي فيمكن القول بأنها تتمثل في المواقع الحضرية في الكويت (فيلكا) وفي البحرين (القلعة وباربار) وفي شرق الجزيرة العربية (تاروت) وفي دولة الإمارات العربية المتحدة (أم النار والبريمي).

كذلك بين للدارس أنَّ المراكز الحضرية في منطقة الخليج العربي، كانت تمارس نشاطاً حضاريّاً مستقلًا، تمثَّل في تشييد المعابد والمقابر، كما كانت تمارس نشاطاً حضاريّاً مع مختلف المراكز الحضارية مثل جنوب باد الرافدين ووادي السند ووادي النيل، وكانت معظم المراكز الحضارية على تواصل حضاري وتجاري واقتصادي مع هذه المراكز، ليظهر لنا جليّاً كيف كانت منطقة الخليج جزءاً مهمّاً من منطقة الشرق الأدنى القديم، فيها نشأت الحضارات الأولى، وتبلورت التعاليم المثلى، فأصبح الشرق منبعاً للحضارة المادية والقيم الفكرية ونقطة مميزة لبدايات النمو والتطور في صوره البدائية منذ آلاف السنين.