3,356 عدد المشاهدات
إعداد: د. رامي ربيع عبد الجواد راشد – مدرس عمارة وفنون المغرب والأندلس
مكانة جليلة القدر حازتها العمارة والفنون الإسلامية في بلاد المغرب والأندلس عبر العصور الإسلامية المتعاقبة، لما تميزت به من خصائص فنية وسمات جمالية تبهر الناظرين وتُحير عقول المتأملين، وكان من بين التحف الفريدة التي تبلغ من العُمُر ما يناهز ثمانية قرون، تلك الثريا البديعة المعلقة بالجامع الكبير في فاس الجديد.
تفيد المصادر التاريخية بأنَّ الأمير أبا يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني (668–685هـ/1269–1286م)، أمر بتأسيس مدينة ملكية جديدة بالجهة الغربية من مدينة فاس العتيقة، وعن هذا يحدثنا ابن خلدون بقوله: «ورأى أمير المسلمين أنَّ أمره قد استفحل، ومُلكه قد استوسق، واتسع نطاق دولته، وعظمت غاشيته، وكثر وافده، ورأى أن يختط بلداً يتميَّز بسكناه في حاشيته وأهل خدمته وأوليائه الحاملين سرير ملكه فأمر ببناء البلد الجديد لصق فاس، بساحة الوادي المخترق وسطها في أعلاه، وشرع في تأسيسها لثالث شوال من سنة أربع وسبعين هذه (674هـ)، وجمع الأيدي عليها وحشد الصنّاع والفَعَلة لبنائها، وأحضر لها الحُزّى والمُعدلين لحركات الكواكب، فاعتاموا في الطوالع النجومية ما يرضون أثره، ورصدوا أوانه، وكان فيهم الإمامان أبوالحسن بن القطان وأبوعبدالله بن الحباك المُقدَّمان في الصناعة، فكمل تشييد هذه المدينة على ما رسم وكما رضي، ونزلها بحاشيته وذويه سنة أربع وسبعين كما ذكرناه، واختطوا بها الدور والمنازل وأجرى فيها المياه إلى قصوره، وكانت من أعظم آثار هذه الدولة وأبقاها على الأيام».([1])
المسجد وسط المدينة
وجرياً على العادة في تأسيس المدن الإسلامية، فقد كان المسجد الجامع في وسطها هو أول ما يُختط بجانب دار الإمارة، وفي هذا الصدد يخبرنا ابن أبي زرع الفاسي بقوله: «ولمّا تمَّ سور هذه المدينة السعيدة فاس الجديد بالبناء أمر» الأمير أبويوسف يعقوب بن عبدالحق« ببناء الجامع الكبير بها للخطبة، فبني على يد أبي عبدالله بن عبدالكريم الحدودي، وأبي علي بن الأزرق والي مكناس، والنفقة فيه من مال معصرة مكناس، ولم يخدم في بناء هذا الجامع الكبير من المعلمين إلا أسرى الروم الذين قدم بهم من الأندلس، ففي شهر رمضان من سنة سبع وسبعين وستمئة تمَّ بناء الجامع المذكور وصلّى فيه، وابتدأ بعمل منبره الذي به الآن على يد المعلم الغرناطشي الرصاع».([2])
صناعة أندلسية
لا يزال هذا المسجد الجامع بتلك المدينة الملكية فاس الجديد قائماً إلى الوقت الحاضر، وممّا اختص به أنه من بناء مهندسين ومعماريين أندلسيين، كما أنَّ صانع منبره أندلسي كذلك، وهو المعلم الغرناطشي الرصاع، نسبة إلى مدينة غرناطة آخر معاقل دولة الإسلام بالأندلس، ولعلَّ هذا يعطي مزيداً من الأهمية المعمارية والفنية لهذا الجامع، والذي لا يزال يحتضن بين أروقته تحفة فنية عجيبة الصنعة، هي تلك الثريا الكبرى التي تتوسَّط بيت الصلاة فيه.
لهذه الثريا قيمة كبرى بما احتوته من نقوش كتابية وعناصر زخرفية بديعة، تعكس عديداً من الجوانب الحضارية التاريخية والفنية مع بداية العصر المريني بالمغرب، كما أنها الوحيدة المتبقية من مساجد ذلك العصر بحاضرتهم الملكية فاس الجديد، ولهذا يعطينا ابن أبي زرع الفاسي إفادات مهمة عنها حيث يقول: «وفي يوم السبت السابع عشر لشهر ربيع الأول من سنة تسع وسبعين وستمئة علّقت الثريا الكبرى بالجامع المذكور، وزنها تسعة قناطير وخمسة عشر رطلاً، وعدد كؤوسها مئة وسبعة وثمانون كأساً، وكان الصانع لها المعلم الحجازي، والإنفاق فيها من جزية اليهود لعنهم الله».([3])
نمط فريد
الثريا – والجمع ثريات – هي إحدى أدوات الإنارة خلال العصور الإسلامية المتلاحقة، وقد تميَّزت الثريات ببلاد الأندلس والمغرب بنمط فريد يختلف عن مثيلاتها ببلاد المشرق، وتفيد المصادر التاريخية بأنَّ «جامع قرطبة الأعظم كان يتوافر بين جنباته على مائتين وثمانين ثريا، منها ثلاث من الفضة، وأما الثريا الكبرى المعلقة بالقبة العظمى التي تتقدَّم المحراب فيبلغ دَوْرها «قطرها» خمسين شبراً، وبها ألف كأس وأربعة وثمانون كأساً، وكلها موشاة بالذهب».
([4]) تتكوَّن الثريا الكبرى المعلقة في الجامع الكبير بفاس الجديد من ثلاثة أجزاء رئيسة هي (القاعدة، البدن، الذراع)، لوحة (1).
القاعدة دائرية تتكوَّن من اثني عشر ضلعاً، لوحة (2)، كانت تتدلّى منها أرجل هابطة – لا تزال آثارها بادية للعيان – تقوم عليها الثريا عند إنزالها للإصلاح وغيره، ويدور بحافة هذه القاعدة من أسفل فيما يتخلل هذه الأرجل نقش قرآني بالخط اللين (الثلث) على أرضية من التوريقات النباتية يقرأ: «أعوذ بالله العلي العظيم من النار ومن كيد الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾». سورة التوبة، الآيتان (17-18).
تذهيب وزخرفة
يبلغ ارتفاع قاعدة هذه الثريا 0,25م، وتتكوَّن من اثنتي عشرة حشوة زخرفية، يتوسَّط كلاًّ منها عقد مفصص يرتكز في الجانبين على دعامتين، وتملأ كل المساحة تشبيكة مخرمة من التفريعات والتوريقات والأوراق الكأسية، كما يؤطر جانبي كل حشوة من هذه الحشوات الاثنتي عشرة أشرطة كتابية بالخط اللين نقرأ فيها بعض العبارات الدعائية الرائقة مثل: (الملك لله)، (العزة لله)، (العزة لله وحده)، (الحمد لله وحده)، (الشكر لله وحده)، (اليمن والإقبال)، (الغبطة المتصلة)، وهذه العبارات ممّا انتشر تداوله على العمارة وفنون بلاد الأندلس والمغرب خلال العصور الإسلامية المتعاقبة منذ عهد الخلافة بقرطبة (300 – 422هـ / 912 – 1030م)، إلا أنها كانت أكثر شيوعاً من ذي قبل في فنون وعمائر العصر المريني الذي ترجع إليه الثريا التي معنا.
نقش تسجيلي
يعلو هذه الحشوات – المكونة لقاعدة الثريا – من الخارج شريط كتابي بالخط اللين، يمثّل النقش التسجيلي لتلك الثريا، حيث يقرأ: «هذا ممّا أمر بعمله الأمير الأسعد الهمام الأوحد الماهر المصون المجاهد في سبيل الله تعلى [ كذا ] أبي يوسف يعقوب بن عبدالحق خلد الله أمرهم ومكّن نصرهم وأدام سعودهم ورفع فوق السما [ كذا ] (… ) وصعودهم لا رب غيره ولا معبود سواه وكان الفراغ من عملها في عام ثمانية وسبعين وستمئة وكل ذلك [ كذا ] ابتغا [ كذا ]، مرضاة الله نفع الله بها الآمر بها وصانعها و (… ) وجميع المسلمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً ﴿ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب﴾».
يلفت الانتباه في هذا النقش التسجيلي أنه وقع التخصيص بالدعاء لصانع تلك الثريا، وهو مؤشر دال على مكانة هذا الصانع، الذي أفاد ابن أبي زرع الفاسي – كما سبق ذكره – أنه هو المعلم الحجازي، ولقب (المعلم) فيه دلالة أخرى على مكانته، والذي لم يكن بالإمكان إطلاقه على أحد من الحرفيين إلا إذا كان من أهل الإتقان والاحتراف في مجال صنعته، وهذا يدل على أنَّ ذلك المعلم الحجازي لم تكن هذه الثريا من باكورات أعماله، بل ولا بدَّ أنه أخرج من تحت يده كثيراً غيرها، ومن ناحية أخرى، يدل هذا اللقب أنه تلقّى فنون وأسرار تلك الصناعة الدقيقة ذات الشأن عمّن سبقوه من (المعلمين) المحترفين، حتى أصبح هو الآخر أحد هؤلاء المعلمين الكبار المنوطة بهم مثل هذه الأعمال السلطانية، وكل هذا يذهب بنا في النهاية إلى القول إنَّ الأسلوب الفني الذي يتجلّى في هذه الثريا شكلاً ومضموناً إنما هو أسلوب فني أصيل متوارث عبر تلك الأجيال من المعلمين، يُرجح أنه يعود إلى ثريات الجامع الأعظم بقرطبة – سبقت الإشارة إليها – حسب ما سيأتي تأكيده لاحقاً.
نقش على قاعدة الثريا
يرتكز على هذه القاعدة بدن الثريا، والذي يزين جوفه المخروطي الشكل قبة زخرفية بديعة من نمط القباب المُعرّقة (الوترية / ذات الضلوع المتقاطعة)، لوحة (3)، تُذكّر من أول وهلة بأصلها القرطبي، إذ كان أول نموذج لها هو تلك القباب الثلاث التي تعلو محراب ومقصورة المسجد الجامع بقرطبة، خلال التوسعة الكبرى التي تمت به على عهد الخليفة الأموي الحكم المستنصر فيما بين عامي (351 – 355هـ / 962 – 966م)، وهذه القبة التي تزين جوف الثريا مكونة من أربعة وعشرين ضلعاً، تتخللها توليفات نباتية منفذة بأسلوب التخريم، قوامها أوراق كأسية وتوريقات نباتية في أوضاع تناظرية بالتقابل والتدابر حول غصن محوري، وهذا الأسلوب الفني وتلك العناصر الزخرفية هي الأخرى، وثيقة الصلة بنظائرها في الفن الخلافي بقرطبة، وبمدينة الزهراء على وجه التحديد، ما يؤيد صلة هذه الثريا من الناحية الفنية بثريات مسجد قرطبة الجامع.
وصف الثريا
بدن الثريا من الخارج مخروطي الشكل، لوحة (1)، يبدأ من أسفل ممّا يلي القاعدة بقرص دائري، محمول على اثني عشر مسنداً ذي أطراف نصلية، وهذا القرص مقسَّم عن طريق المساند الحاملة له إلى اثنتى عشرة حشوة كلها متماثلة من الناحية الزخرفية، قوامها توريقات وتفريعات نباتية في أوضاع تناظرية بالتقابل والتدابر، لوحة (4)، كما يؤطر حافة القرص من الخارج شريط كتابي قرآني، بالخط اللين على أرضية من التوريقات النباتية يقرأ: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّه وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾. سورة النور، الآيات (35 – 37).
لذلك النقش القرآني على الثريا دلالة مهمة وارتباط وثيق، فكما أنَّ نور الوحي والقرآن في قلب العبد المؤمن يضيء له طريقه السائر فيه إلى الله عز وجل، وكأنه سراج مزهر شديد الصفاء، فكذلك هي الثريا، والتي كفاها شرفاً وفخراً أن تضيء بيوت الله تعالى في أرضه، خدمة لعباده العابدين، القانتين، الذاكرين له فيها آناء الليل وأطراف النهار، رجال لا تشغلهم الدنيا وما فيها من متاع زائل عن القيام بين يديه سبحانه وتعالى، خوفاً ووجلاً من يوم لقائه والعرض عليه جل جلاله.
تعلو قرص الثريا ثمانية أطواق دائرية يقل قطرها تدريجياً كلما ارتفعنا لأعلى، لوحة (1)، وكل طوق منها يؤطره عدد من المساند الحاملة لكؤوس الاستصباح يجاور بعضها بعضاً، لوحة (5)، وبتلك الكؤوس كان يُصب زيت الاستصباح مع الفتيل ليتم إشعاله، فتصير الثريا وكأنها قطعة مذهبة تتلألأ وسط أروقة هذا البيت الفسيح، الذي تسوده أجواء من السكون والطمأنينة بما انسدل عليه من ستائر الخفوت والظلام، ولأهمية الثريا فقد كان ملحقاً بالجامع على يمين المواجه للمحراب – مما يلي بيت المنبر – بيت مخصص لحفظ زيت الوقد الخاص بها مع غيره من متعلقات الجامع، مثلما كان هو الحال كذلك بمسجد قرطبة الجامع([5])، وأخيراً، يتصل بهذا البدن من أعلاه الذراع الحامل للثريا، والمعلق بدوره في سلسلة معدنية مدلاة من السقف، لوحة (1).
فلسفة الصناعة
هكذا كانت صناعة وزخرفة تلك الثريات المعدنية ببلاد المغرب وثيقة الصلة بثريات جامع قرطبة الأعظم، لما كان بين الفنين الأندلسي والمغربي من علاقة حميمة عبر العصور الإسلامية المتعاقبة، يشهد لها بعض النماذج الأخرى من تلك الثريات بمساجد ومدارس بلاد المغرب،
كالثريا الكبرى بجامع القرويين من العصر الموحدي (600هـ / 1203م)، وهي الأكثر شهرة وأهمية من الناحية الفنية بلا منازع، وكذلك الثريا الكبرى بجامع تازة من العصر المريني (694هـ / 1294م)، والتي فاقت ثريا جامع القرويين سعة وحجماً، غير أنها لم تفقها جمالاً وإبداعاً، وأخيراً، فهناك الثريا المتواضعة الملحقة بمسجد مدرسة العطارين من العصر المريني كذلك (725هـ / 1324م)، وهذه الأقل أهمية من الناحية الفنية من بين الثريات الثلاث، والتي سوف نفرد لكل منها – لاحقاً – دراسة مستقلة بحول الله الملك الوهاب.
الهوامش
(1) – ابن خلدون (عبدالرحمن): كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر. دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1413هـ / 1992م، جـ7، صـ 230 – 231.
(2) – الفاسي (علي ابن أبي زرع): الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية. دار المنصور، الرباط، 1972م، صـ 162.
(3) – ابن أبي زرع: الذخيرة السنية. صـ 162.
(4) –التلسماني (احمدد بن محمد المقري): نفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيبزحققه:د. إحسان عباس،دار صادر،بيروت، لبنان، 1388
(5) – المقري: نفح الطيب. جـ 1، صـ 559.