3,338 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
تتوارث الأجيال الصفات الحميدة من الأجيال التي سبقتها وتتكون الطبائع العامة لكل مجتمع من طبائع الأسر التي تكون هذا المجتمع. فإن كانت الأسر من أهل الشجاعة والبأس والكرم والضيافة، فإن المجتمع يكون كذلك إذا كان من نسيج واحد غير مختلط، أما في المجتمعات المختلطة فإن الأمر يعتمد على الأغلبية وكذلك الصفات تصل إلينا عن طريق الجينات أو عن طريق التعود والممارسة. فمن يسأل عن سبب حب العرب للكرم والاحتفاء بالضيف، فليقرأ قول الله عز وجل عن أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصاة والسام: “فَرَاغَ لىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ” الآية (26) من سورة “الذاريات”.
يقول ابن القيم رحمه الله عن هذه الآية:
تتضمن هذه الآية وجوهاً من المدح وآداب الضيافة وإكرام الضيف، منها قوله: ( فراغ إلى أهله) والروغان هو الذهاب بسرعة والاختفاء وهو يتضمن المبادرة إلى إكرام الضيف، وفي قوله تعالى: (إلى أهله) ، مدح آخر لما فيه من الإشعار أن إكرام الضيف أمر حاصل عند أهله، وأنه لا يحتاج أن يستقرض من جيرانه، وقوله: (فجاء بعجل سمين) يتضمن ثلاثة أنواع من المدح:
أحدها: خدمة ضيفه بنفسه فإنه لم يرسل به وإنما جاء به بنفسه.
الثاني: أنه جاءهم بحيوان تام ولم يأتهم ببعضه ليتخيروا من أطيب لحمه ما شاؤوا .
الثالث: أنه سمين ليس بهزيل، وهذا من نفائس الأموال.
إلى آخر ما قاله في تفسير هذه الآية الكريمة، ويهمنا أن نعرف أن الجينات الوراثية التي لدى العرب الأقحاح اليوم هي نفس جينات العرب في ماضي الأزمان لم تتغير وإنما هذبها الإسام وأكرمهم بتمامها بخلق سيد المرسلين عليه الصاة والسلام.
العرب منذ القدم جبلوا على الكرم والنجدة وحماية الجار والتزام العهد وتقدير الجار والشجاعة التي عرفوا بها، وكتب عنهم المؤرخون من جميع الأمم ووصفوهم بها ومدحوهم وتوالت القرون إثر القرون وهم يحملون نفس الجينات كما ترونهم، لا يتغيرون عنها ولا يحيدون منذ
أبيهم إبراهيم إلى ما شاء الله.
قدمت هذه المقدمة أيها الأعزاء، لتعرفوا أن العربي الشهم الكريم لا يتكلف هذه الصفات بل هي فيه، مجبول عليها لا يستطيع أن يتركها، ولو حاول فإن أخلاقه التي ورثها من أجداده تمنعه من ذلك. وفي العرب أمثلة كثيرة وفي دولة الإمارات وفي منطقة جميرا مثال رائع وعلم مشهور وشخصية مقدرة عند القريب والغريب. هذا هو الوالد الكريم خلفان بن ضاحي بن تميم رحمه الله، الذي كنت أمني النفس منذ الموسم الأول للراوي أن أتحدث عنه ولكن المعلومات لم تتهيأ، فدعونا نتعرف إليه ونعرف جانباً من سيرة حياته.
في بيت كرم وخير وحي كريم ولد الوالد خلفان بن ضاحي بن تميم في منطقة جميرا التابعة لإمارة دبي، وهي منطقة تاريخية تقع على الساحل ساحرة بطبيعتها وتضاريسها ونخيلها وأشجارها ومياهها، ويعيش فيها كبار الأسر من قبيلة بني ياس والمناصير وغيرهم من الأسر الكريمة، كان مولده في سنة 1926 تقريباً.
جده تميم من فرع الحويذات من قبيلة آل بومهير، القبيلة الياسية المشهورة. وأصل مسكن تميم في إمارة أبوظبي، ثم انتقل منها لطلب تحسين الأعمال كما رحل غيره من هناك ومنهم أجدادنا الذين انتقلوا من أبوظبي في نفس الفترة إلى دبي خلال القرن التاسع عشر، وكان له بيت فيها ويملك مجموعة من أراضي النخيل، وله وجاهة بين الناس، وأظنه توفي قريباً من 1840 لأن خلفان ابنه والد ضاحي أخذه أخواله من آل بوعميم وكان عمره عشر سنوات حين وفاته. ونشأ بينهم صغيراً في منطقة الفقع، ثم عاد بعد ذلك إلى منطقة جميرا وسكن فيها.
أما والده الشجاع الكريم ضاحي بن تميم فقد كان مقارباً في سنه من سن الشيخ سعيد بن مكتوم رحمه الله وعلى هذا تكون ولادته في سنة 1880 تقريباً، وهو من الرجال المشهود لهم بالشجاعة والكرم وحسن المنطق، وله مواقف مشرفة كثيرة، فقد قام بأعمال محورية في استتباب الأمن في ظروف صعبة وهو من رجال الشيخ سعيد والشيخ راشد المخلصين. ولضاحي بن تميم والد خلفان مكانة مجتمعية رفيعة عند الحكام والعامة، بهي الطلعة مهيباً كما أخبرني بذلك خالي محمد بالشيخ الحميري، وقد توفي قريباً من سنة 1948 .
يقول خليفة بن حاضر المهيري رحمه الله عنه: كان الذين في رفقته يلتزمون بالأوامر والأخاق العالية وهذا دليل على خلقه العالي الكريم.
وقد قال الشاعر الكبير محمد بن ثاني بن زنيد السويدي قصيدة طويلة وجزلة رواها معالي ضاحي خلفان عن المرحوم ماجد باليوحة المهيري اخترت لكم منها:
شدهني زمان العسر وأمسيت حاير
كما حارت النفس اللزيمه بدينها
وقمت أفتكر من حين ما عسعس الدجى
واطالع خيار الناس من دون شينها
وكلما عقد الهزر في حدٍ انثني
بصدٍ ونفسي ما قوي في هجينها
ولمّا طويت الياس ردت هواجسي
إلى من للشكوى فهيم فطينها
جدا ضاحي المشهور بالمجد ذكره
نسل الرجال اللى عديمٍ قرينها
يا طارشي حث ابمسيرك وعجّل
وانصى سديد الراي وافضي كنينها
نشأ خلفان في هذا البيت الكريم. وفي منطقة الحواضر من جميرا التي كانت تضم كبار الأسر من أهل الصدق والأمانة وحب الخير والتعاون، وهم متعاونون كرماء لا يشكو جارهم، وكم يكرم ضيفهم على قلة ما في يدهم من الدنيا، ولكنها قناعة النفس تغني عن كثير من الأموال.ولو رأيتهم اليوم، وبعد مرور كل هذ السنين لوجدتهم على نفس السجية الطيبة لم تغيرهم الدنيا ولم تبدل الحياة المدنية أخلاقهم، بل هم يتوارثون النبل والشهامة والكرم ولا يتخلون عنه أبدا.
تعلم الوالد خلفان بن تميم في كُتَّاب كان ينفق عليه والده ضاحي، فقرأ القرآن وشيئاً من الكتابة والحساب على شيخ اسمه حسن بن عبد الله قدم من بر فارس، وكان كثير من المطاوعة يأتون من بر فارس لتعليم أهالي المنطقة، فلم تكن في تلك الأيام مدرسة واحدة في جميرا ولا حتى بيت مبني من الحجارة، فهم في الخيام وقت الشتاء وفي بيوت من العريش وقت الصيف يعيشون من صيد الأسماك ومن الغوص على اللؤلؤ، ويشربون من مياه الآبار والقناعة كانت كنزهم. واهتم بتعلم فقه الإمام مالك منذ صغره لأنه مذهب قبيلة بني ياس حتى حفظ كثيراً من الأحكام وكان يرى أن أفضلية الإمام تكمن في أخذه بعمل أهل المدينة الذي أخذوه من عمل الصحابة، وكان من شدة أخذه بالمذهب إذا ذكر مالك ينشرح صدره ويتهلل ولا عجب في ذلك فقد قال الإمام الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك النجم. ركب البحر منذ صغره. وتعلم مهارة القيادة وكان يقول: القائد بغير جماعة لا قيادة له، يعني أنه يجب أن يتلطف ويرفق بهم ويجمعهم ولا ينفرهم. وكان ينشد قول شاعر الإمارات الحكيم ابن ظاهر:
ومن لا تغاضا عن خطايا رجاله
شكا الضيم مهضوم بغير رجال
عرف الوالد خلفان بصدقه وشفافيته ورؤيته الواضحة، ولم يكن كما يقولون «يلف ويدور ،» بل يأتيك بالكلام المباشر، وينصر المظلومين إذا رأى ظلماً وقع عليهم ولا يبالي، يقف معهم حتى ترد حقوقهم ولا يريد منهم شيئاً.
وقد عرف بالكرم، مع أن أحواله المادية لم تكن قوية بل كانت متوسطة.
وبسبب كثرة ما ينفق ويعين يظنه الناس أنه صاحب مال كثير بسبب عطائه المستمر، وإذا اختلف الناس وحدثت بينهم المشاكل، فإنهم يرضونه حكماً بينهم حتى في بعض خلافاتهم العائلية كما أخبرني بذلك نجله معالي الفريق ضاحي خلفان بن تميم حفظه الله.
كان الوالد خلفان قوي الحجة فصيحاً ولا يدخل في دعوى إلا وكسبها، وهذا كان من صفات رجالنا الأوائل التي قلت هذه الأيام، فا تجد إلا قلياً منطقاً حسناً كما كنت أسمعه عند أهلنا الراحلين.
أخبرني معالي الفريق ضاحي أن والده خلفان طلب منه أن يرمي سجلين كبيرين فيهما ديون أيام الغوص، وقال له ارمهما في البحر، وكان ضاحي صغيراً فلما يضطلع على ما فيهما، فرجع إليه وقال هذه ديون لك على الناس فقال له: ارمهما في البحر والعوض من الله.
كان الوالد خلفان معجباً جداً بأخلاق وصفات آل مكتوم فغرس هذا الإعجاب والحب في قلوب أهله وأبنائه وكان يقول: إن آل مكتوم حكموا بكرمهم وحسن أخلاقهم فأحبهم شعبهم.
قبل يومين من وفاته قال لزوجته: إني رأيت كأني مسافر وقد شعرت أن رحيلي قد اقترب، وهذا ما حصل فقد فارق الحياة الفانية وانتقل إلى جوار ربه في 9 ديسمبر 1996 تاركاً السمعة الطيبة والذرية الكريمة وهذه الذكرى التي نتذكرها عنه اليوم، رحمه الله وأدخله فسيح جناته.