صناعة السفن الخشبية في دولة الإمارات

الإمارات مجلة مدارات ونقوش - العدد 1

 12,662 عدد المشاهدات

تحقيق: مريم أحمد قدوري

للتراث قسط فيما كتبت أنامل المبدعين والمفكرين الإماراتيين المحدثين، وكتاب «صناعة السفن الخشية في دولة الإمارات العربية المتحدة » للباحث علي محمد راشد، الصادر عن دار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، في طبعته الأولى سنة 2009 ، كتاب واضح المعالم من عنوانه تناول محتواه عدة فصول شملت: مهنة صناعة السفن وطريقة بناءها وأنواع السفن وطرق تصنيعها في دولة الإمارات.

نوه الكاتب إلى أن موقع دولة الإمارات العربية المتحدة على ساحل البحر هو أحد أبرز الأسباب التي جعلت سكان المنطقة يعتمدون على البحر في معيشهم اليومي ويسخرونه لجلب الرزق وتوفير سبل التواصل معبقية شعوب العالم، وتسهيل التجارة وتبادل السلع مع الغير.

وبدأ الرجل الإماراتي يشاهد السفن التي تأتي من بعيد على ضفاف شواطئه، فأدرك مدى أهميتها في عملية التبادل التجاري وصيد السمك والسفر وغيرها، وأحد أهم سبل كسب العيش كما سبق الذكر، ومن هنا بدأ في خوض غمار هذه المهنة التي تعدُّ من أقدم المهن التي مارسها سكان المنطقة، وهي مهنة صناعة السفن.

تعرف صناعة السفن الخشبية في منطقة الخليج العربي ب «القلافة ،» وصانع السفينة يسمى «قلافاً » أو «جاف »، وهي مهنة توارثها الأبناء عن الآباء، ومنهم من تعلمها بمفرده، ومارسوها منذ الصغر. فالصبي عندما يبلغ الثامنة أو أكثر قليا يبدأ العمل في هذه المهنة ويسمى «وليداً ،» ويظل يتعلم المهنة في ورش العمل سنة أو سنتين، في البداية يراقب القلاليف، ثم يبدأ مناولتهم عدة الشغل، من منشار ومطرقة وغيرها، ويتلعم أسماء عدة القاف، وكيفية الإمساك بها، وكيفية استخدامها، ومن ثم يبدأ العمل ببعض الأدوات ويكلف بالقيام بمهام بسيطة في الأماكن التي لا تحتاج إلى خبرة ودراية. فيبدأ مثا باستخدام المجدح (المقدح) ويثقب الألواح، ويتعلم ضرب المسامير، ثم يمسك بالمنشار لنشر الألواح وتشريحها، ثم يضع الألواح الصغيرة ويسد الثغرات بين الألواح، وهي وضع ما يسمى بالسجاجة.

وبعد مرحلة مراقبة ومتابعة الأستاذ، سوف ينظر الأستاذ في أمره هل سيستمر في العمل أم لا؟ وهنا يجري الأمر على شقين: إذا كان الوليد من الأسرة العاملة في القلافة فإنه في غالبية الأحوال سيستمر وتستمر عملية تدريبه «مع بعض الشدة » حتى يصبح قلافاً، أما إذا كان المتدرب شخصاً عادياً فيترك له الاختيار في الاستمرار في العمل أو الانسحاب والبحث عن مهنة أخرى، ولا سيما أن مهنة القلافة مهنة متعبة وشاقة وتتطلب استعداداً ذهنياً وبدنياً من القلاف.

لكن لم يبق الوضع كما كان في الماضي، بل تغيرت حرفة القلافة وقل العامليون بها بسبب دخول الكثير من أبناء القلاليف المدارس والجامعات واشتغلوا بوظائف إدارية ومارسوا التجارة، مما جعلهم يبتعدون عن المهنة، إلى جانب أن الطلب على السفن الخشبية قد تراجع كثيراً في الوقت الراهن.

وعن غير «الوليد » الذي هو أصغر فرد في طاقم عمل صناعة السفن، نجد الأستاذ وهو رئيس القلاليف وأكثرهم خبرة، هو مهندس السفينة والمشرف والمتابع لجميع مراحل بنائها. ثم نجد نائب الأستاذ الذي يتولى الإشراف على القلاليف والعمل في غياب الأستاذ. ونجد مسؤول الشامين وهو قاف يعمل على تشذيب ألواح السفينة المسماة «الشامين »، ومعه يعمل مسؤول تركيب الألواح وضارب المسامسر وقاف كلفات (جلفاط أو قلفاط) ومهمته إدخال فتائل القطن المشبعة بالدهن بين فراغات ألواح السفينة ليمنع تسرب الماء إلى داخلها.

قلاف الشقوق هو أحد العمال أيضاً ومعه عدد من العمال، ثم نجد الطباخ الذي لا يسير العمل بدونه كونه أحد أهم مصادر الطاقة لدى الموظفين وقت العمل.
ومن الضروري عرض المواد المستخدمة في صناعة السفن، وتتصدرها الأخشاب وهي أنواع تجلب من الهند، ومنها خشب الساج الذي يعد مقارنة بغيره بمنزلة الذهب بين الأخشاب، فمميزاته كثيرة ويكفي أنه أفضل خشب يمكن أن تصنع منه السفن على الإطاق. يتميز بقدرته الفائقة على مقاومة الماء لصغر مسامه، ولوجود مادة دهنية فيه تجعله لا يتأثر بالماء. لونه ذهبي جذاب لا يتغير مع الزمن، ورائحته مميزة تشبه رائحة الجلد.

أما النوع الثاني المستخدم، فهو خشب الجنقلي وهو خشب صلب كثيف اللون، يتميز بالقدرة على امتصاص الصدمات وصعوبة تكسره طالما كان مغموسا بالماء.

بينما يسمى النوع الثالث ب الفيني، استخداماته محدودة، لكنه كبير الفائدة نظراً لتميزه عن غيره من الأخشاب بقدرته الكبيرة على الالتواء والثبات في مكانه، وقلة تمدده، لذلك فهو مثالي لصنع لوح «للتريج » وهو اللوح العلوي النهائي لجسد السفينة.

ثم يأتي خشب المنتيي (المنطيج) الذي يستخدم في صنع لوح «الكمر » و «القيطان »، وتصنع منه دفة السفينة أو «السكان »، وتتبعه أنواع أخرى من الخشب، كل نوع يشكل جزءاً مهماً من أجزاء السفينة.

كما توجد أنواع أخرى من الخشب، تصنع بها مختلف أجزاء السفينة، وهي الخشب الفن، خشب باكة، الميط، القرط وخشب الفنص، وهي كلها أنواع لا يستهان بها في صناعة السفن لأنها تتميز بالقوة والصلابة، واللين أحياناً، لكنها صالحة جداً لبناء سفن تقاوم البحر وأهواله.

أما المواد العضوية المستخدمة في صناعة السفن وبعد الانتهاء منها ولا سيما عند قلفطتها وإعدادها للسفر، فنجد الحل وهو زيت أبيض اللون يستخرج من جوز الهند ويستخدم في سد الفتحات التي تكون بين الألواح لمنع تسرب الماء إلى داخل السفينة. ونجد أيضاً الشونة وهي مزيج من الجير وشحوم الأغنام، تذاب وتخلط مع بعضها ويطلي بها البحارة أسفل السفينة عن طريق استخدام الأيادي. إضافة إلى الصل الذي يستخدم لطاء السفن قبل انزلاقها في البحر، والصل هو زيت يستخرج من سمك السردين، وظيفته حفظ الألواح من التآكل ومن حرارة الشمس والزيادة في عمر السفينة. لدينا المغر أيضاً وهو مادة معدنية حمراء تأتي من جبل هرمز على الساحل الغربي لإيران ومن جزيرة موسى، تستخدم لوضع علامات على الخشب عند صناعة السفن باستخدام القلم، فيما نجد قماش الشراع والذي يعرف باسم الغزل في صناعة الشراع، وهو قماش سميك من القطن يصنع في الهند ويأتي على هيئة لفات يبلغ عرض الواحدة منها 1.5 قدم أو ثلاثة أقدام. لدينا الحبال أيضاً، وهي ضرورية جداً وتستخدم على سطح السفن الشراعية، تصنع من ألياف جوز الهند وهي مختلفة السماكة تبعاً لتعدد استخداماتها.

وأخيراً نجد الدامر كعنصر آخر يدخل في صناعة السفن، وهو مادة صمغية تستخرج من بعض الأشجار في الهند، وتوضع على الأخشاب السفلية المعرضة للماء حتى لا تتعفن .

وقد ذكر الباحث صفات السفن وأنواعها التي تنقسم إلى خمسة أنواع وهي:

– السفن الكبيرة والضخمة التي كانت تستخدم للسفر والنقل التجاري والبحري للمسافات البعيدة مثل الهند وسواحل إفريقيا.

– سفن صيد اللؤلؤ وهي أصغر قلياً من سفن السفر وقد صممت بحيث تكون واسعة وذات صوار طويلة، كما زودت بمجاديف لتجعل حركتها ممكنة من مغاص إلى آخر في حالة سكون الهواء، وهي لا تصمم لتتصدى للأمواج العاتية أو لحمل أكبر قدر من البضاعة.

– سفن النقل التجاري بين موانئ الخليج، وهي ذات أجسام متوسطة وتعمل في نقل البضائع و المسا فرين .
– سفن صيد الأسماك في مياه الخليج العربي، وهي ذات أحجام متوسطة وصغيرة، وتعمل في المياه العميقة والمناطق الضحلة القريبة من الشواطئ.
– سفن نقل المياه والصخور والخدمة بين السفن الكبيرة والراسية بعيداً نسبياً على الشواطئ، وقد تميزت بضحالة غاطسها واتساع وسطها حتى تستطيع حمل أكبر قدر من البضاعة وتتمكن من الرسو بالقرب من الساحل لإفراغ حمولتها.

هي مهنة شاقة، العمل فيها يمتد من الصباح الباكر حتى مغيب الشمس الحارقة التي لا تكفي المظات لتبريدها في دولة الإمارات التي تتميز بارتفاع درجة حرارتها روطوبتها في أغلب أشهر السنة، إلا أن إرادة الرجال تقهر الجبال، ورجال الإمارات قدوة في تحدى الطبيعة القاسية التي تعايشوا معها وأبدعوا فيها وتطوروا عبر الزمن في جميع المجالات والتخصصات وليس فقط في مجال صناعة السفن.