2,580 عدد المشاهدات
حين تذكر نجد يتبادر إلى الأذهان جماليات هذه البقعة الجغرافية في موروث الشعر العربي، فهذه البيئة الغنية بتراثها وحكاياتها شكلت مساحة واسعة من تراث الجزيرة العربية، المتداول على ألسنة الرواة، والمكتوب في متون التدوين، في كتابه الموسوم بـ”نجد قبل 250 سنة” يفتح الدكتور محمد بن سعد الشويعر نافذة تتيح إطلالة على الحياة العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية في نجد قبل قرنين من الزمن، ويلقي الضوء على حقبة، طالها التعتيم لقلة المصادر التي ترصد الأحداث، لكنها لم تكن بمعزل عن الازدهار الحضاري
هذا الكتاب الصادر عن دار النخيل للنشر في العاصمة السعودية الرياض، نشرت طبعته الأولى سنة 1992، وجاء في 142 صفحة من الحجم المتوسط، سبر فيه المؤلف المظاهر الحضارية في هذه المنطقة، من خلال نظرة عامة على نماذج من المعالم الأثرية كالقلاع والحصون والبناء والتعمير، إضافة إلى قراءة في الإنجازات العلمية ونشاط التأليف والعلماء وازدهار المكتبات في نجد وأوقافها
فجوة تاريخية
وذكر المؤلف، أن الكتاب ماهو إلى نتف، اختارها لدحض آراء من يقولون إن المنطقة بعيدة كل البعد عن الحضارة، ولم تكن سوى قفار للعابرين من البدو في بحثهم عن الكلأ والمرعى، إذ في تاريخ المنطقة فجوة كبيرة فيما بين الدولة العباسية وقيام الدولة السعودية الأولى 1158 هـ، ما جعل الجزيرة العربية عموماً ونجد بصفة خاصة، تعيش فترة تاريخية معتمة في نظر المؤرخين، نتيجة لضعف المصدر الذي تستقى منه الوقائع، فخلال حكم القرامطة (317 – 470 هـ) كما بيّن الكاتب أسدل ستار قاتم على المنطقة حجزت بموجبه المعلومات التاريخية، بسبب سياسات هذه الدولة، اللهم إلا النزر اليسير مما يتناقله الرواة عبر أماكن متناثرة، ما جعل بعض الباحثين – وأكثرهم من الغربيين – يصفون المنطقة بشظف العيش وينعتون سكانها بالتقاتل لأتفه الأسباب، ويرى مؤلف الكتاب أن هذه الأحكام لا يجب التسليم بها بمجرد إطلاقها، ولا ينبغي مرورها بدون تمحيص وموازنة، كما يأخذ على الرحالة ناصر خسرو نقله أيضاً لهذه الصورة، حيث بدأ رحلته بعد نهاية الحج من عام 442 هـ، الموافق 10 مايو 1051 م، وقد زار أجزاء كبيرة من منطقة نجد، لكنه تحدث بإيجاز عنها.
تعمير المدن
ويورد المؤلف أن نجد كثرت فيها بصورة عامة، حركة وإنشاء تعمير المدن والقرى في الفترة ما مبين القرن الثامن، حتى بدء دعوة محمد بن عبد الوهاب، والتحامها مع آل سعود، على يد الإمام محمد بن سعود، في تكوين دولة منظمة، ومن هذا الجانب يستطرد المؤلف بأننا لا نستطيع أن نعتبر المنطقة خالية من الأحداث التاريخية، ولا من مقومات الحضارة لتوفر أسبابها.
ويستنتج الكاتب من واقع النصوص التأريخية أن منطقة اليمامة، خاصة الرياض وما حولها ونجد بصفة عامة، قد بدأت تزدهر من جديد، وتأخذ طابع الاستقرار، بعد انعزالها بسبب الأحداث التي انصبت عليها فترة من الزمن، ولبعدها عن مقر الخلافة من ناحية أخرى فأهملت، وقد ذكرت سدوس القريبة من الرياض في الكثير من المراجع التاريخية بجودة صناعتها ووفرة ثمار زراعتها، ومن ذلك ما كتبه ياقوت الحموي (574 – 626 هـ).
ومن المدن الذي ذكر الكتاب مدينة الدرعية، التي ذكر أنه مر بها زمان كان بها أربعمائة عالم، كلهم كانوا من أهل القضاء، فالحضارة لا يقيمها إلا الرجال المتعلمون، وتتكيف بحسب الوضع المعيشي، والاستقرار الاجتماعي، ومن هنا فإن الرغبة في التملك، والانتقال من مكان إلى مكان، لم تأتي إلا بعد وفرة أهم مقومات الحياة، وهو الماء الذي هو قوام الحياة، فالوفرة المالية كانت خلف رغبة الناس في الإعمار الزراعي، وبناء المدن، فعام 770 هـ كان زمناً لبناء بلدة حرمة المجاورة للمجمعة، فغرسها وعمرها إبراهيم بن حسين بن مدلج الوائلي، وسكنها مع كثير من قرابته وأتباعه.
وفي عام 820 هـ تم تعمير المجمعة، وقصة هذا هو أن أول من سكنها عبدالله الشمري، ثم وفد إليها الناس وتكاثروا عنده، حيث شجعهم بالسكنى إلى جواره، وذلك بإقطاعهم أراضٍ، ومدهم بالممتلكات، فقامت منذ ذلك الوقت بلدة قوية تزخر بالمعرفة ورواد العلم.
وعن تاريخ الرياض أورد الشيخ حمد الجاسر أشياء تدل على قوة بشرية متوفرة وقاعدة حضارية موجودة في حديثه عن حجر اليمامة، التي كانت عبارة عن حارات متعددة، ثم تناثرت المساكن فيها مع الحوادث، إلى أن أصبحت قرى متكاثرة.
إضافة إلى بلدة التويم، ومنطقة الوشم، ويورد الكتاب في حديثه عن الوشم ما قاله الزبيدي (1145 – 1205 هـ) في تاج العروس نقلاً عن ياقوت الحموي (574 – 626 هـ) عن بدوي من تلك الناحية: أن الوشم خمس قرى عليها سور من لبن، وفيها زروع ونخيل، والقرية الجامعة فيها ثرمداء.
كما ذكرت معاجم جغرافية وجود مدينتين كبيرتين في القصيم، وأفاضت في وصفهما الحضاري والعلمي، وهما عنيزة وبريدة، كما ذكرت قنوات حريملاء وأفلاجها البديعة.
علم وعلماء
ويشرح كتاب “نجد قبل 250 سنة” أنه مع بناء المدن وإعمار البلدان، شكلت مؤثرات جذبت الناس إلى تغيير منهج حياتهم المتنقلة، ومسببات حركت في نفوسهم الاستقرار، فكان لذلك نتائج ملموسة، فالنفس عندما تهدأ، والفكر عندما يرتاح فإنهما لا بد أن يتحركا من أجل عمل آخر، فتهيأت الأسباب للاستزادة من العلم وطلب المعرفة.
ويرصد الباحثون معلومات عن أسر فيها بكاملها، تعتبر منبع علم، ومجمع معرفة، حيث عرفت نجد بازدهار علمي ووفرة في والوفود من الرجال المسافرة إليها طلباً للعلم.
واشتهرت بعض المدن بالعلم، كأشيقر، التي زخرت بالفقهاء، حتى كان يجتمع في الوقت الواحد منهم أربعون عالماً، كلهم يصلحون للقضاء، يوم كان القضاء لايصل إليه، ويبلغ مرتبته إلا فطاحل العلماء وكبارهم.
ووجد العلماء في مدينة العيينة وكثروا بها، حتى كان يجتمع منهم ما يزيد عن الثمانين عالماً، حسب الرواة، يدرسون العلم في جوامعها في زمن واحد.
ومن المظاهر العلمية انتشار المكتبات وأوقافها، فالمتتبع لسير وتراجم الرجالات العلمية، في الفترة الزمنية التي نتحدث عنها، يدرك أن هناك أسراً عرفت بالتسلسل العلمي، وتوارث الاهتمام بالمعرفة، وقد التزموا وحافظوا على أسباب العلم، رغم المشقة وندرة الوسائل في ذلك الوقت، من ناحية شح الورق والأحبار والأقلام.
ومع ذلك يذكر المؤلف تدوين أكثر من 28 مؤلفاً في ذلك الوقت، مع زهدهم في التأليف، وكان أغلبها في علوم الفقه، كما شاعت الأوقاف العلمية، وذلك يعطي صورة عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية.
الحصون والقلاع
ومن ناحية التحصينات والقلاع، يفرد الكاتب حديثاً لأنماط متعددة من الحصون في نجد قبل 250 سنة، من ضمنها أسوار تحمي المدن والقرى، وخنادق خلف الأسوار، وكذلك أسوار ومقاصير متكاثرة في أسوار المزارع، وأركان القصور، وعلى بوابات المدن، وقد كانت كل هذه الأساليب الدفاعية جديدة على أبناء الصحراء، استفادوها من أمم أخرى خلال الفتوحات الإسلامية، وأقاموها لحماية أنفسهم وممتلكاتهم في أماكن تجمعاتهم وحواضرهم من الأمم الأخرى مع احتكاكهم بها، واستفادتهم من طريقتهم في منهج الوقاية، وأساليب الحياة المستقرة.
ففي عالية نجد ذكر في القرن الحادي عشر الهجري، قصر لعجل بن حنيتم، شيخ آل المغيرة، الذين كان لهم صولة وجولة في المنطقة، كما كانت الأعراب تنزل بجواره وتحتمي به، كما ذكر قصوراً منيعة في مدينة جلاجل بسدير، كما ذكر الهمداني (280 – 334 هـ) في وصفه منطقة العروض من جزيرة العرب، وخاصة الفلج، فقد ذكر مدناً ذات أسوار عظيمة، إلى جانب أكثر من أربعين حصناً، كما أن هناك إشارات لبعض الحصون والقلاع في منطقة الجوف.
صناعات نجد
كما اشتهرت الصناعة، كجزء مرافق من تطور البلدات في ظل الاستقرار في نجد، منها النجارة والحدادة والصناعات الفخارية والنحاسية، وصياغة الذهب والفضة، ويذكر الهمداني (280 – 334 هـ) في كتابه (صفة جزيرة العرب) أسماء أماكن عرفت بالمعادن، وتبلغ هذه المواضع مقرونة بأنواع المعادن ووفق أسمائها 22 موضعاً، حيث يبين في ذلك بأن أعلب أماكن التعدين في اليمامة (منطقة الرياض حالياً) حيث سكنتها وما حولها قبائل عرفت بامتهان الصناعة، كباهلة وبني أسد، وبني سليم.
كما اشتهرت ثرمداء بصفة خاصة، والوشم بصفة عامة، بنسج البُرُد، وهو جمع بُرْد (نوع من الأكسية الجيدة) إذ بلغت تلك الصناعة شأواً كبيراً، تعدى حدود الإنتاج المحلي، إلى الشهرة والتصدير، جودة وكثرة، إلى المناطق الأخرى.
وهذا قليل من كثير جاء بين سطور كتاب (نجد قبل 250 سنة) لمؤلفه الدكتور محمد بن سعد الشويعر، درس المظاهر العلمية والثقافية والعمرانية في نجد، خلال فترة تاريخية محددة، تناولتها المراجع التاريخية بالقليل من التفصيل والكثير من اللبس، فنفض الغبار عنها، مستنداً إلى مخطوطات ومرويات وكتب أضاءت على هذه الفترة.