أهو توارد خواطر؟

block-2 مجلة مدارات ونقوش – العدد 10

 1,838 عدد المشاهدات

الكاتب: د. شهاب غانم

عندما توفي الزعيم المصري سعد زغلول باشا (1858م – 1927م) وكان قائد ثورة 1919م، كما شغل منصب رئيس وزراء مصر في عام 1924م، وكان في منصب رئيس مجلس الأمة عند وفاته، رثاه كبار الشعراء أمثال حافظ وشوقي من مصر، وبشارة الخوري الملقب بالأخطل الصغير من لبنان الذي قال قصيدة مطلعها:


قالوا دهت مصر دهياء فقلت لهم
هل غيض النيل أم هل زلزل الهرم
قالوا أشد وأدهى قلت ويحكم
إذن لقد مات سعد وانطوى العلم

 

 

وفي عام 1949 أقيم في الهند حفل لتأبين زعيم الهند الأشهر، المهاتما غاندي ) 1869 – 1948)، في ذكرى مرور سنة على اغتياله. وقد وقف الشاعر الهندي الشهير، فالاثول ناريانا مينون (1878 – 1958)، في ولاية كيرالا وكان من المحبين المقربين لغاندي فقال يرثيه شعراً بقصيدة بلغة «المالايالم» منها: 


لسنا في حاجة لتدريب آخر على الصبر
وعلى أن نتحمَّل أية دهياء يمكن أن تجتاح الصدر!
حتى قبل عام، كنتَ قدوتنا الكبرى في كل أمر
ماذا لو جفَّ نهر الجانجا؟
ماذا لو زلزلت الهملايا؟

 

ذكرني البيتان الأخيران اللذان كُتِبا عام 1949 بشطر بيت الأخطل الصغير الذي أنشده بالعربية في عام 1927 قائلاً:

هل غيض النيل أم زلزل الهرم

فنهر الجانجا «أو الكنج» بالنسبة إلى الهند كالنيل بالنسبة إلى مصر وجبال الهملايا رمز في شموخها يذكر بالأهرام بالنسبة لمصر. أظنه توارد خواطر بين شاعرين كبيرين، خصوصاً أنني أستبعد أن تكون قصيدة الأخطل قد تُرجِمَت إلى الإنجليزية أو المالايالم أو الهندية. لقد سألت عدة أصدقاء من الشعراء الهنود الكبار عن هذا التشابه، فقالوا جميعاً: إنهم يظنون ذلك مجرد توارد خواطر بين الشعراء.

 
***

كلُّ ذلك أعاد إلى ذاكرتي أبياتاً كنت قد قرأتها في مجلة الهلال الشهيرة عدد أكتوبر 1977 لشاعر أحرف اسمه الأولى «م. ل.» يقول في بعض أبياتها:

وراعني صدها العاتي وأرقني
وأشعل القلب آلاماً وأحزانا
فرحت ألهب بالقيثار عالمها
شعراً يفجِّر قلب الصخر غدرانا
وما حملت يراعي مسكراً عبقاً
إلا ليجلوها طيباً وألحانا
كأساً من الحبِّ لو تسقى الشموس به
ترنَّحت ومشى نيسان سكرانا

وقد ذكرت حينذاك أبياتاً شهيرة جداً لشاعر اليمن الكبير الشهيد محمد محمود الزبيري (1910م  – 1965م) الملقَّب بأبي الأحرار تقول:

 

أضلَّني وهم شعر كنت أنسجه
سحراً يحول قلب الصخر ألحانا

وهالني شؤم ما استكشفت من جثث
قد كنت أحسبها من قبل تيجانا

فرحت أشعل بالقيثار مقبرة
الموتى وأنفض أغلالاً وأكفانا
أصبو إلى أمتي حباً وأبعثها
بعثاً وأبني ذلها بالشعر بنيانا

أصوغ للعمى منه أعيناً نزعت
عنهم وأنسجه للصمِّ آذانا

وما حملت يراعي خالقاً بيدي
إلا ليصنع أجيالاً وأوطانا

يخاله الملك السفاح مقصلةً
في عنقه ويراه الشعبُ ميزانا

فهاك يا أمتي روحاً مدلهة
عصرتها لخطاك الطهر قربانا

كأساً من الشعر لو تسقى الشموس به
ترنَّحت ومشى التاريخ سكرانا


وهي أبيات رائعة كان يحفظها آلاف من المثقفين اليمنيين في النصف الثاني من القرن الماضي، ولعلها كانت مدرجة في النصوص المدرسية في اليمن. وقد كتبت حينذاك رسالة لرئيس تحرير «الهلال» عن هذا التشابه أو توارد الخواطر! (أترك الحكم للقارئ) ولكنه لم يرد علي، ولا أدري إن كان قد كتب تنويهاً في «الهلال» أو اتخذ أيَّ إجراء آخر.

 
****

وفي عدد نوفمبر 1984 من مجلة الأمة التي توقفت منذ سنوات قرأت قصيدة بعنوان «قريب نصرنا» لشاعر أحرف اسمه الأولى «م. م. ع. ص» منها هذه الأبيات:

 
متى يا نصر تطلع في ربانا
طلوع الفجر من بعد اختناق
وفي القدس الشريف اليوم أفعى
مكائدها على قدم وساق
فهلا عدت فالأكباد ظمأى
تكاد تذوب من حرِّ اشتياق
محال أن نرى للنصر وجهاً
ولو طرنا إلى السبع الطباق
سنبقى في انتكاسات وذلٍّ
ومسكنة ممددة الرواق
قريب نصرنا يا قوم جداً
فإنَّ الحقَّ منتصرٌ وباق

وقد ذكرت حينذاك أبياتاً من قصيدة معروفة لوالدي الدكتور محمد عبده غانم، رحمه الله، بعنوان «يا فجر» كانت نشرت في مجلة العربي عام 1971، وفي ذلك الوقت لم يُسْمَح بدخول العدد إلى عدن تحت ظلِّ الحكم الشمولي، وقد نشرت القصيدة بعد ذلك في ديوان «في موكب الحياة» الذي صدر عن دار الآفاق الجديدة في بيروت عام 1973 مطلعها:

أشقاء ولكن في شقاق

   وأحباب ولكن لا تلاقي

ومنها:
متى يا فجرُ تطلع في ربانا
فقد عزَّ اللقاء على الملاقي
وكم ولّى لأجلك من شباب
بشاشته على قدمٍ وساقِ
فهلا جئتنا والنبض فينا
قوي في اندفاع وادّفاقِ
أتبقى خلف أفقك لا تبالي
ونحن نذوب من حرِّ اشتياقِ
فلا نسطيع مدَّ يدٍ إليها
كأنَّ الغصن في السبع الطباقِ
سنبقى أعيناً يا فجرُ ترنو
وترقبُ خيطَ نورك في انبثاقِ
متى يا فجرُ يجلو عن حمانا
ظلامٌ بات ممدودَ الرواقِ
فلم نفقد رجاء بعد فينا
يحدثنا بأنَّ الخير باقي

وقد أخذت هذه الأبيات من دون الالتزام بالترتيب الأصلي للأبيات في القصيدة، ولكن فقط لأتساءل: أهو توارد خواطر؟ والرد لدى القارئ الذي يستطيع أن يرى الفرق الفني الشاسع بين القصيدتين.

***

وأخيراً أشير إلى قصيدة من شعري أثيرة إلى قلبي؛ لأنَّني كتبتها لحفيدتي عندما كانت دون العامين بأيام، وكنت ألاعبها لعبة إخفاء الأشياء ونشرت القصيدة في مجلة العربي في مطلع القرن الجديد وعنوانها «بخبوخ»، وهي كلمة تقال في لعبة إخفاء الأشياء في المنطقة التي نشأت فيها وقد ترجمت القصيدة إلى نحو 16 لغة حتى الآن، ومن ضمنها كلُّ اللغات الرسمية في الأمم المتحدة وتقول القصيدة:
 

«بخبوخ»
(إلى حفيدتي هنوف)
= = = =
وسقطت الدرهم فوق الكف اليسرى
ونفخت عليه
ووضعت عليه الكف الأخرى
قلت لها قولي «بخبوخ»
قالت: «بحبوح»
ففتحت الكفين
أين الدرهم؟..أين؟
غاب بلمحة عين
ضحكت.. والتمعت دهشتها في العينين
كانت – يحفظها المولى – دون العامين
«بخبوخ»
وتوارى درهمنا المنفوخ
راحت تحضر دميتها الضخمة ذات الثوب الجوخ
وضَعَتها في كفيّ
وقالت : «بحبوح»
قلت أراوغ.. في صوت مبحوح
هذي الدمية أحلى من أن تخفى
يا روح الروح
!

 

وقد وجدت القصيدة قبل فترة منشورة في موقع أحد المنتديات باسم شخص نكرة لم أسمع به من قبل. لقد نشرها تماماً كما هي فيما عدا كلمتي «بخبوخ» و«بحبوح» التي لم يفهمهما كما يبدو فوضع كلمة «أف» محلهما فدمّر القافية، وعبث بالقصيدة ككل وهو يحاول أن يسطو على واحدة من أشهر وأفضل قصائدي ويهديها إلى ابنته هبة. وقد حاولت أنا وصديق أن ننبِّه الموقع للأمر، ولكن لم نفلح مع الأسف. واليوم عندما حاولت أن أدخل الموقع لتذكّر اسم ذلك الشخص المعتدي وتسجيل الحروف الأولى من اسمه وجدت الموقع نفسه لم يعد ينفتح ربما بشكل مؤقت.

والحمد لله رب العالمين.