752 عدد المشاهدات
وهو أمر عجيبٌ جدا للشعوب الأخرى التي لم ترتق لهذه المنزلة في التقدم، والأعجب من هذا حرصهم على جمع علوم الآخرين وتواريخهم وكتبهم وآثارهم حتى مجلاتهم، وصرفهم الأموال الكثيرة على كل ما يرفد حضارتهم، ولو كانت لا تساوي شيئاً في أعين من لا يعرف قيمتها من النّاس الذين يظنّون أنّ القوّة والعزّة تأتيان من غير بذلٍ ولا اجتهادٍ وتدوين واستفادةٍ من خبرات الآخرين، في شتّى الميادين العلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكما قلتُ:
إنّ المعاليَ لا تأتي على دعةٍ
بلْ دونَ مبلغها ما ليسَ يُحتملُ
إنّ قصة تأسيس بلاد الأندلس والحضارة الأموية فيها لا تخفى على أحدٍ من العالمين، ولكنّ المسلمين اليوم ومن قبل ذلك بكثير، أبعد النّاس عن هذه الحضارة العظيمة ومعرفتها ودراسة نتاجها الحضاري الذي استفاد منه الغرب بصورة غريبة.
فقد بقيت مزدهرةً لقرونٍ طويلةٍ، ولا نعلم عنها إلا شذراتٍ من هنا وهناك، ومعلومات قليلة مما تبقى من مؤلفاتهم، فقد ضاع أكثرها بسبب الغزو الإسباني، ثم قام الإسبان بإخفاء ما بقي لديهم، ولم يظهروا للناس إلا القليل. وأدعو الله أن تقوم الدولة الإسبانية بإخراج كلّ هذه المخطوطات لكي نستفيد منها من باب التاريخ والعظة، لأنّ الحضارة الأندلسية رحلت ولن تعود أبداً.
كان الخليفة الأندلسي الحكم الربضي بن هشام بن عبدالرحمن الداخل (154-206هـ)، من أهل العزم والحزم والفتوحات وإرغام الأعداء، وسيرته معروفة، ولي وقفات معها في مقالات أخرى، لأنّه ظُلم من بعض المؤرخين للأسف، ولا يمكنني أن أتحدث عنه من خلال هذه المقالة، ولكنّي سأكتفي بالحديث عن اختياره للقاضي العالم محمد بن بشير المعافري (198هـ) الذي يعدّ من كبار قضاة المسلمين.
-نفاذ حكمه على كل أحد من الأمير إلى حارس السوق.
-وأنه إذا ظهر له العجز من نفسه أعفي.
– وأن يكون رزقه (راتبه) كفافاً من مال الفيء.
وكذلك يريد أن يعفيه الخليفة من القضاء إذا ظهر عليه العجز والضعف، لا ما نراه من تمسك بعض القضاة بعملهم مع ضعفهم وكثرة أمراضهم وعدم قدرتهم على الاستيعاب كما كانوا في السابق، وكذلك اشترط أن يكون راتبه مناسباً كفافاً لا كثيراً ولا قليلاً، بل ما يكفي حاجته، وهذا من علمه وتقاه رحمه الله.
ومن أمر القاضي العادل محمّد بن بشير المعافري: أنّه كان له صديق من الصالحين، فطلب منه المشورة في أمر توليه القضاء هل يقبله أم يرفضه؟ فقال له هذا العابد الصالح: أسألك عن ثلاثة أشياء فاصدقني فيها: كيف حبّك لأكل الطيّب، ولباس الليّن، وركوب الفاره من الدواب؟ فقال ابن بشير: والله ما أبالي ما رددتُ به جوعي وسترتُ به عورتي وحملتُ به رجلي.
فقال: هذه واحدة، فكيف حبّك للوجوه الحسان وشبه هذا من الشهوات؟ فقال ابن بشير: هذه حالة والله ما استشرفت نفسي إليها قط ولا خطرت ببالي. قال: هذه ثانية، فكيف حبك للمدح والثناء وحبك للولاية وكراهتك للعزل؟ قال: والله ما أبالي في الحق من مدحني أو ذمّني، وما أفرح بالولاية، ولا أستوحش للعزل.
فقال له صديقه الصالح: اقبل القضاء ولا بأس عليك.
قلتُ: تأمّلوا أيها الأعزاء كيف طلب القاضي مشورة من هو أهلٌ للشورى، وتدبّروا في أسئلة هذا الصالح، فستعلمون أنه لما علم حالته وتأكّد من صدقه وإخلاصه وعدم حبّه للرياء ولا السمعة، قال له: اقبل القضاء ولا بأس عليك.