2,361 عدد المشاهدات
الكاتب : سعد بن عبد الله الحافي – رئيس تحرير مجلة الحرس الوطني السعودية
لا تزال الكثير من مصادر الأدب الشعبي مطوية تحتاج إلى بحث وتقصٍّ في سبيل استقاء المعلومة الصحيحة من أصلها، وقد تكون هذه المصادر محفوظة في مكتبات بعيدة لا يتوقع أحد وجودها فيها، ومن ذلك مخطوط «الرحلة المكية» للسيد علي بن عبدالله المشعشعي، من أهل القرن الثاني عشر الهجري، والمحفوظ في إحدى مكتبات إيران، والذي يشتمل على معلومات قيمة عن تاريخ الإمارة المشعشعية وحكامها، وعن فترة زمنية مهمة، ومن ذلك هذا النص الذي بين يدينا للشاعر بركات بن مبارك المشعشعي والمشهور عند رواة الشعر الشعبي «بركات الشريف»، وهو من أهل الحويزة، والذي كثر الجدل حوله، وتمَّ الخلط بينه وبين بركات بن محمد الشريف من أهل مكة، وقد كنت في مقالات سابقة أشرت إلى التفريق بينهما من خلال دلالة نصوص الشاعرين عامر السمين الذي مدح بركات بن محمد، والشاعر الشعيبي الذي مدح بركات بن مبارك، وحدد مكانه في الحويزة، واليوم هذا المخطوط يثبت صحة ما ذهبت إليه، ويقطع جدل كل مخالف اعتمد على أوهام واهية لم تستند إلى دليل ولم يكن ينصاع لدلالة النصوص.
النص:
يقول الحسيني والحسيني ابا علي
بأبيات قيلٍ يشتكي من مصايبه
عفا الله عينٍ عن غضاها محاربه
وقلبٍ دنيفٍ زايد الهم حار به
ما انام اذا نام المعافا ولج بي
صديقٍ شفيقٍ جيداتٍ مذاهبه
دع العذل عني يا نصيحي وخلني
ومثلك ما يرضى هوانٍ لصاحبه
اذا ما هدانٍ اضعف البعد عزمه
وعاش بذلٍ راكبٍ فوق غاربه
شهرت عن الزهدا وهي لي وسيعه
والأرزاق كافلها جزالٍ وهايبه
تخيرت بعد الدار في نازح المدا
ولا قولةٍ بركات قد هان واجبه
وقد قلت عند اشرفت ذا عشيه
على مرقبٍ عالي الذرا من مراقبه
فيا مبتلغ مني ذو الجود والثنا
ومن شب زينات المعاني مناسبه
تحمل مني بالسلام المضاعف
عدد ما اضا برق الدجى في سحايبه
مبارك زبن المنقضات ابن مطلب
حما الجار والجانين عن كل نايبه
وقل يا حما الوندات عن ذبل القنا
اذا احمر من روس البلنزا ذوايبه
ويا مورد الاسياف بيض حدودها
وصادر بها حمراً من الدم شاربه
ويا من رقا روس المعالي على نقا
وحاز معاني الجود من خط شاربه
إلى الجار والجانين بالجود والعطا
إلى النذل قد ذولل واغضا بحاجبه
بنيت لنا بيتٍ من المجد شامخ
عسى الله لا يهدم من الضد جانبه
وراسك ما بعد الديار يهمني
ولا النيه الزورا اداري عواقبه
فلكن جاني منك منشور هرجه
على حضرة الرماق والناس قاطبه
تعاتبني من غير ذنبٍ جنيته
وغيري لو داس الردا ما تعاتبه
وطاوعت بي من لا يريدون حضرتي
اليك ولا من مثل ذي كان واجبه
تقول ان لولا جيتي ما تبينت
امورٍ بها قيل المباغيض كاذبه
وراسك لولا جيتي وانت شاكي
لينبان لك بالناس ما كنت حاسبه
ولا جيتك الا والرجال زواحف
على الدار بالاسلاف والظعن قاطبه
لعلك تذكرني اذا جتك ريبه
وجا المال يحدا جافلٍ من معازبه
بيومٍ كداجي الليل ظافي كتامه
وفيه السبايا كالخطاطيف لاعبه
وريش القنا حومه كغربان دمنه
على رمم بين السميين قاطبه
وفيها القنا ما بين ذولا وبين ذا
كرشيان من بيرٍ طوالٍ مجاذبه
وفيها جياد الخيل من صل وقعها
كصلصال برقٍ واليماني سحايبه
نشوف قناهم حين تاتي خيولهم
سناديل قصب طالعٍ من مساربه
وتشوف ايانا على ديرة العدا
يثور ونقع الغبو قامت سلاهبه
اقحم غنماً باللقا ذبل القنا
الى عاد نقع الغبو للجو ثايبه
اجي فوق شعواً يقحم العود جريها
مرفعة قبا كبارٍ مناقبه
طويلة عظم الساق وافي شبورها
لها مثل عنق الديك طوعٍ اجاذبه
عليها معا نصب ومنعم ولايق
ودرعٍ حصينٍ ابيضٍ يستلاذ به
ومع طاسة فيها تمعنا استادها
وترسٍ وهنديٍ جيادٍ ضرايبه
ومع طول عشر فيه زرقا سنينه
تلوح كنجمٍ تالي الليل ثاقبه
ترى ان شكت اطراف البلنزا من الظما
فهي مع قناتي من دما الضد شاربه
غذيك وان جلت خطوب فانني
صبي خلا ما لان للضد جانبه
ولاني بغوايٍ ولا ذو سفاهه
غريرٍ ولا عيني لدنياك راغبه
وقنعت روحي بالزهيد بغيتي
رضاك وغيري فيك زلت تجاربه
وادعيت وجهي صوب ربي وخالقي
فلا به جزع عني اذا اردت اخاطبه
وقلت على معنى قديمٍ سمعته
بالامثال ما قد قال زيدٍ لصاحبه
اذا نابحتنا من صديقٍ كلابه
ودبت من البغضا علينا عقاربه
عطيناه باوراك المطايا ويممت
بنا فوق حزم صارخاتٍ ثعالبه
وافضل ما قلنا نصلي على النبي
نبي الهدا ازكى قريشٍ مناسبه
الشاعر:
بركات (بركة) بن مبارك بن مطلب بن محسن بن محمد بن فلاح المشعشعي الموسوي، ويرد نسبه إلى الحسين بن علي، أسس جده محمد بن فلاح في عام 844هـ إمارة المشعشعين في الحويزة، وقد أطلق عليه لقب المشعشع «لما يتمتع به من صورة جميلة وطلعة نورانية بحيث يبدو مشعاً»، وقد عاش شاعرنا في عهد والده السيد مبارك بن مطلب الذي تولى حكم الإمارة سنة 988هـ وتوفي شاعرنا شاباً في عام 1023هـ، حيث ذكر صاحب الرحلة المكية أنَّ وفاة بركات قبل وفاة والده مبارك بثلاث سنوات ومبارك توفي عام 1026هـ، يقول صاحب الرحلة عن بركات: «كان جامعاً للخصال الحميدة والعقل والرأي والصلاح والسداد والعفة وهو شجاع سخي».
مناسبة النص
جاء في تقديم النص: «يخاطب فيها والده لما جزا على نجد بأهله وعاش هناك سنوات»، ثمَّ بعد إيراد النص تحدَّث صاحب المخطوط بإسهاب عن تفاصيل خلاف بركات مع والده مبارك، حيث كان بركات قد تزوج بنت حميدان الخميسي وبنى لها بيتاً عند أهلها، وبعد مدة ركب عليهم السيد مبارك بعسكره حيث كانوا نازلين (حميدان وقبيلته) بندرخان، فبات قريباً منهم ولما نامت الناس لبس بركات عدته وركب حصانه.. وأتى أهله ونزل، وبعد ساعة ركب وقال لزوجته اذهبي إلى أبيك وأخبريه أنَّ السيد مبارك سيغير عليكم ضحى يوم غدٍ إن بقيتم، «فانكسروا من حينكم».. فارتحلت العرب من حينها وأما هو فعاد إلى خيمته آخر الليل ونام فيها، ووصل السيد مبارك إلى ديار العرب قرب الظهر، فوجد المراح خالياً فقال نادوا بركات فجاءه، فقال: «أنت أنذرت العرب، فقال له يا محفوظ من أجواد خدامك عشاهم البارحة كان عندي، وتعللنا ليلٍ كثير ولكثرة الجلوس بتنا وأصبحت بفراشي معهم اطلبهم واسأل منهم، فطلبهم فذكروا ما ذكر بركات وحلفوا، ثم عاين وجه بركات، وقال هذا الوجه النحس وجه من هو محارب ليلته بتعب، احلف براسي أنك ما وصلت العرب البارحة وأنذرتهم، قال وراسك خرصك بمحله، فأجزعت هذه السيد مبارك..».. ثمَّ يذكر صاحب الرحلة المكية أنَّ السيد مبارك تأثر كثيراً بوفاة ابنه بركات ومن ذلك ما نقله عن السيد حمد بأنه «كان بايت بالطواله وتالي الليل سمع نحيب رجل وبكاءه، ويسمع من قوله بركه وهذه سنة وفاته، واذا هو صوت مبارك فأويت له وقلت هذا الأقشر هذا الحين ينقطع نفسه فأتيته فإذا هو لا بدَّ على كومة سماد ومنقطع نفسه وسيفه ودرقته مشمرات بحذاه، فتكا له على صدره إلى أن أفاق فوقع الشريف على رجله، وقال له يا ميشوم ما ترحم نفسك ما ترحمنا ما ترحم هالجريرة غدا لك بدر ما هو خير من بركة»، قال له: «يا حمد لا تقول هذا بدير ما يخلفني الذي ما يمكنه بدون لحاف والشتاء لبسه القصبي، بريك يا حمد بعمره ما لبس اللباس ولا نام على لحاف، هذاك ولدي هذاك خلفي»، وشهق وتنحب وغشي عليه ثانية للصبح حتى انتبه وأخذ درقته وسيفه ودخل إلى الحرم.
المعنى الإجمالي للنص
بدأ الشاعر قصيدته بوضع وسمه على النص جرياً على عادة الشعراء في تلك الفترة الزمنية، ثم بيّن حاله وما يشعر به من الحزن وتوارد الهموم عليه، ومعاناته الأرق وما يجده من صاحبه المشفق عليه الذي لا يكف عن لومه، ما جعله يعيش صراعاً مع نفسه بين قرار البقاء وما يترتب على ذلك من شعور بالهوان أو الرحيل، وليصل إلى قرار قاطع بأنه سيرحل مبتعداً في أرض الله الواسعة، ولن يبقى فيقال إنَّ بركات قد رضي بالهوان، ثمَّ يبعث برسالة إلى والده مبارك، ذلك الكريم ذائع الصيت المعروف بخصاله ومكارمه منذ أن كان شاباً، حيث عرفت عنه الشجاعة والفروسية وحماية الجار ودفاعه عمن يلوذون بجواره، خوفاً من المطالبين بالثأر منهم، فقد بنى لأبنائه صرحاً شامخاً من المجد، ويدعو الله ألا يهدم، ثم يقسم بأنَّ ابتعاده لم يكن خوفاً على نفسه، وإنما السبب هو كلام والده عليه أمام الملأ بما يعدُّ إهانة له، وهو لم يقترف ذنباً يوجب ذلك، بينما غيره يقوم بأفعال مشينة ولم يعاتَب، والشاعر بذلك يشير إلى معاملة والده لأخيه الأكبر (بدر)، كما أنَّ والده استمع إلى الكارهين له ممن يتكلمون فيه بقصد بث الفرقة بينهم، حيث اتهمه بأنه عندما ذهب لزيارة زوجته حذر أهلها من نية والده غزوهم، ويقسم الشاعر بأنَّ القوم قد عزموا على الرحيل قبل أن يصلهم ولم ينذرهم، ولو أنه لم يذهب لهم لجاء خبر رحيلهم، ثم يتمنَّى على والده أن يذكره عندما يشن عليه الأعداء هجوماً، فيصبح النهار ليلاً داجياً، وقد ثار نقع الخيل التي يشبهها بالخواطيف «يقصد نوع من الطيور سريعة الحركة في كل الاتجاهات»، ويصف تطاير ريش الرماح الذي يوضع خلف الحراب بالغربان التي تحوم على جثث الحيوانات الملقاة بين أطلال منازل القوم المرتحلين، ويستمر في وصف أجواء المعركة مشبهاً انطلاق الرماح بين الفريقين المتقاتلين بالحبال التي تجذب الماء من البئر العميق، وصوت وقع حوافر الخيل على الأرض وكأنه صوت الرعد في السحاب الممطر القادم من جهة الجنوب، ليؤكد أنَّ والده عندما يشاهد رماح الأعداء مرفوعة وتتقدم بهم خيولهم سيشاهد أياً منّا سيهجم، حيث سيحضر شاعرنا على فرس شعواء سريعة الجري قحوم، بعيد ما بينها وبين الأرض ضامرة البطن عظيمة الصفات طويلة الساق طويلة العنق الذي يشبه ارتفاعه عن جسدها بعنق الديك، سهلة القياد لفارسها الذي يمتطيها وقد لبس لامة الحرب، مرتدياً درعه الأبيض والطاسة التي اعتنى بها صانعها وسيفه الهندي القاطع ورمحه الطويل الذي يرتوي من دماء الأعداء عندما تظمأ رماح الآخرين، وذلك هو الشاعر الذي يخاطب والده قائلاً أنا ابنك وتربيتك، فعندما يكبر الخطب فإنه ذلك الفتى البدوي الشديد الذي لا يلين له جانب ولم يكن ذا هوى أو سفيهاً يخدعه الآخرون، وليس له طمع في ما لديك، فقد اقتنعت بالزهد طلباً لرضاك مع أنَّ غيري قد مضت له معك تجارب، ولكني رجوت ما عند الله الذي لا يجزع ولا يخيب طالبه، ثم يستشهد بأبيات جارية مع الناس لمن سماه (زيد) ينصح بالرحيل مبتعداً عن الصديق، عند الشعور بالإهانة في قربه، ويختم قصيدته بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم.
دلالات مهمة:
1- ما جاء في مخطوط الرحلة المكية ينفي جميع الروايات في المجاميع والدواوين الشعرية في ما يخصُّ نسب الشاعر وقصته مع والده.
2- – النص الشعري الصحيح للشاعر بركات بن مبارك هو ما جاء في هذا المخطوط وما يخالف ذلك فإنما هي روايات محرّفة زادها الرواة.
3- الشاعر بركات ارتحل إلى نجد وعاش فيها إلى أن مات بعيداً عن والده وهذا يبرّر الشهرة التي نالها عند أهل نجد.
4- إشارة إلى أنَّ هناك شاعراً اسمه زيد، سبق زمنُه زمنَ بركات، وأشار له في قوله:
وقلت على معنى قديمٍ سمعته
بالأمثال ما قد قال زيدٍ لصاحبه
إذا نابحتنا من صديقٍ كلابه
ودبت من البغضا علينا عقاربه
عطيناه باوراك المطايا ويممت
بنا فوق حزم صارخاتٍ ثعالبه
5- المخطوط يثبت ما ذهبت إليه في مقال سابق من أنَّ بركات بن مبارك ليس ممدوح الشاعر عامر السمين الذي عاش مطلع القرن العاشر الهجري، وأنَّ قصيدته التي مطلعها:
لمن طلل بين الخمايل والخالي
خوا وخلا خلا ما نزل به الخالي
إنما قالها في بركات بن محمد بن بركات بن الحسن بن عجلان الحسني الذي أشركه والده في حكم مكة عام 877هـ، واستمر ذلك حتى توفي محمد عام 903هـ، وتولى ابنه بركات الأمر بعده إلى أن توفي عام 932 هجرية.