4,397 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
في الجزيرة العربية، حيث موطن أهم سلالات الخيول العربية، لا توجد سجلّات معروفة ولا مؤلفات منشورة عن تاريخ أعرق الخيول العربية، اللهمَّ إلا كتابات قليلة حديثة من هنا وهناك اعتنى بها بعض المستشرقين الأوروبيين وقليل من أصحاب المرابط العربية للخيول في مصر والشام مثل الأمير عباس باشا، وكانت قليلة شحيحة حتى جاء القرن التاسع عشر، فقام هؤلاء بتسجيل بعض من تاريخ الجواد العربي الذي توقف الحديث عنه منذ عصور طويلة عند انتهاء عصر التدوين العلمي لأسباب كثيرة ليس هنا مكان ذكرها. ونحن إن ذكرنا الشحَّ الذي حصل في الماضي في تدوين ما يستحق تدوينه من معلومات عن الخيول العربية، فإنني أتعجب من استمرار قلة التدوين وندرة المصادر في دول الخليج العربي، مع كثرة اعتناء الملوك والشيوخ بها في الحاضر وطيلة الأزمان الماضية، مما أدى إلى ضياع أخبارها وأصولها وأشعارها وقصصها إلا النزر القليل.
كنت في حديث مع أخي الباحث سعيد بن كراز حول قصائد الفرسان، التي نسميها «التشوليبة» في لهجتنا و«الحداوي» في المملكة العربية السعودية، فقال لي: لم نجد إلا أبياتاً قليلة بسبب رحيل الرواة! فقلت: هلّا أدركنا من تبقى منهم حتى لا يضيع الباقي!
وكان الحديث عن ربدان؛ حصان الشيخ زايد الأول حاكم أبوظبي، رحمه الله، الذي حكم ما بين (1855-1909) وكان له اعتناء كبير بالخيول العربية، وتأتيه الهدايا من الأمراء في الجزيرة العربية لمعرفتهم بحبه الكبير للجواد العربي، وكان من بين الهدايا الحصان «ربدان»، الذي تدور هذه المقالة حول سلالته، وقد ظنَّ كثير من الناس بسبب عدم معرفتهم بأصول الخيل أنَّ ربدان حصان وحيد تمَّ تسميته بهذا الاسم من قبل الشيخ زايد الأول، ولهذا أردت أن أبيِّنَ مختصراً بعض المعلومات عن الربد؛ سلالة ربدان المذكور.
أصل التسمية
«الرُّبدَة» لون الغبرة أو لون يميل إلى الغبرة، وقد عُرف النعام بلون الربدة، وهو اختلاط لون السواد مع الرماد الذي يشبه الغبرة المعروفة، ولا يزال هذا المعنى في اللهجة العامية. ويقال: إنَّ الخيول الرُّبد سُمِّيت بهذا الاسم، لأنَّ فارسها الأول لحق بها من سرعتها بنعامة، وتتميَّز سلالة الرُّبُد بسرعتها وحوافرها الصغيرة، وكذلك بقوائمها القوية والخفيفة التي تشبه النعام.
وعلى هذا، فإنَّ أصل التسمية يدور حول النعام؛ إما لوناً، أو سرعةً أو لأنَّ أوَّل من امتطاها أدرك بها نعامة. وأنا أميل إلى أنَّ سرعتها هي سبب التسمية؛ لأنَّ الخيول الرُّبد تأخذ نفس ألوان باقي الخيول العربية، فلا مزية لها في اللون، وإنما التشابه في بعض الصفات، كما جاء التشبيه بالنعام كثيراً في شعر العرب فصيحه وشعبيه باستخدام مفردة «الربدة»؛ يقول طرفة بن العبد في وصف ناقته:
جمالية وجناء تردي كأنها
سَفَنَّجة تبري لأزعرَ أربدِ
وقال آخر:
إذا أقـبـلـت قــلـــت مـــشـــحـــونةٌ
أطاعت لها الرّيح قلعاً جفولا
وإن أدبـــرت قـــلـــت مـــذعــــورةٌ
من الـرّبـد تـتـبـع هـيقـــاً ذمـــولا
وفي تشبيه ساق الجواد العربي بساق النعامة، كما جاء في وصف الخيول الربد يقول امرؤ القيس:
له أيْطَلا ظبيٍ وسـاقـا نـعـامةٍ
وإرخاء سرحانٍ وتقريبُ تتفلِ
أما في الشعر العامي فأهل الجزيرة العربية يسمّون النعامة «ربدا» ويجمعونها على «ربد»، وهو كثير في أشعارهم، يقول الشاعر سالم الجمري:
يوم ادفعوهن كنهن ربد جفّال
وإلا كما عاصوف ريح الدواليب
وفي قول مبارك العقيلي:
من الصيعريات المذاعير في الفضا
كما جول ربدٍ رايعه شخص صيّادي
وإن سأل سائل: هل جاء في التراث اسم جواد عربي باسم الربد؟ فالجواب: نعم، حيث ورد نصٌّ للأصمعي مع هارون الرشيد نقله غير واحد من الرواة، ونصه من نهاية الأرب للنويري: «حكي أنَّ هارون الرشيد ركب في سنة خمس وثمانين ومائة إلى الميدان لشهود الحلبة، قال الأصمعيّ: فدخلت الميدان لشهودها، فجاء فرس أدهم لهارون الرشيد سابقاً يقال له الرّبد؛ فسرَّ به الرشيد وابتهج، وقال: عليّ بالأصمعيّ، فنوديت من كل جانب، فأقبلت سريعاً حتى مثلت بين يديه؛ فقال: يا أصمعيّ، خذ بناصية الرّبد ثمَّ صفه من قونسه إلى سنبكه» إلى آخره.
وهذا يدل على تسمية الخيول بالربد النعام منذ العصور القديمة، ولعلَّ هذا الاسم كان شائعاً حينذاك، وقد تكون اسم سلالة من الخيول العربية لم يتم توثيقها.
بداية السلالة
ليس لسلالة الرّبد مالك معروف، ولا نعلم متى سمِّيت بهذا الاسم، ولعلها من الأسماء العربية القديمة التي توارثها العرب عن أجدادهم، وقد مرَّ بنا أنَّ هارون الرشيد كان الربد من خيوله، مما يدل على قدم المسمى، ولكن وإن لم نعرف كيف بدأت سلالة الربد (الربدا وربدان)، فإننا نعلم من اشتهر بامتلاكها من العرب، كما جاء في أشعارهم وبعض الوثائق التي عُثِر عليها، وتخصُّ مبايعات لهذا السلالة الأصيلة، كما سنثبته في هذا المقال. وإن أنسَ لا أنسى السِّفر الكبير وأهم وثيقة علمية اليوم لتوثيق الخيول للعربية في القرن التاسع عشر، ألا وهو كتاب «أصول الخيول العربية» الذي جمع فأوعى في فنه؛ لأنه أُعِدَّ للخديوي عباس باشا الأول (ت 1854)، أكبر جامع للخيول العربية في وقته، وكان من حبه لها أن أرسل وفداً إلى البدو في الجزيرة العربية لتوثيق أصول الخيول العربية، فكان للباحثين واسطة عِقْد مؤلفات الخيول، وسأتحدث عنه في مقال منفصل إن شاء الله. وقد خصّص الجامع لهذا السفر النفيس الفصل التاسع عن سلالة الربد، فكان فتحاً للدارسين حيث وجدنا كثيراً من المعلومات.
جاء في كتاب «أصول الخيل العربية» في الفصل التاسع عن سلالة الرّبد: «أفاد بطحي الخشيبي (من القواسم من ظفير) أنَّ أصل سلالة ربدة الخشيبي عند أجدادي من شريف مكة في ماضي الزمان؛ حيث وقعت معركة بين قبيلة ظفير والأشراف، فسلبها منهم منيخر الخشيبي وأعطاها إلى أخيه صقر خشيبي، ثمَّ غزاهم الشريف مرة أخرى وغنموا منه ربداء أخرى وبدؤوا ينسلون منهما (وسميت من ذلك اليوم ربدة خشيبي)، وبعد ذلك غزت عنزة ظفير فغنمت منهم إحداها وبقيت عندهم، أمّا التي بقيت عن صقر خشيبي فقد ماتت وانقطع رسنها».
من هذه الرواية نستنبط أنَّ أصل رسن الربدة من أشراف مكة، ثمَّ أخذته القواسم من ظفير، ثمَّ انتشر عند بعض القبائل مثل الفدعان من شمر، ولديهم ربدة سليسلي سميت باسم زوجة صاحب الربدا سليسلة، ثمَّ انتقلت سلالة الربد إلى الدوشان من مطير بعد معركة مع البراعصة فغنم منهم الربدا وعرفوا بها من زمن فيصل الدويش الأول وأهداها لابنه عبدالعزيز الدويش، ولها قصة طويلة.
كذلك هناك وثيقة نادرة نشرها الأستاذ يحيى الكندري في مجلة بيت العرب الكويتية، وأعدنا نشرها في هذه المجلة، جاء فيها ما يثبت ملكية سلالة الربد لأسرة الدويش: «نعم، حضر ناصر ابن ثلَّاب الدوِّيش، وأقرَّ على أنَّه باعَ علي حسن بن عبدالرحمن بن حسين، نِصْفَ فَرَسِهِ الحمراءِ ربداء، وقُودْها كلّه بثمنٍ معلومٍ، قبضهُ من ناصر في 12 شهر ذي الحِجَّة سنة 1300هـ (1888م). كذلك وجدت هذه السلالة عند آل خليفة الكرام، وأهداه إلى السيد سعيد بن سلطان الذي أهداه إلى حكام مصر حينها».
وصول ربدان إلى أبوظبي
عرفت قبيلة بني ياس وشيوخها الكرام من آل نهيان وآل مكتوم بحبهم للخيول العربية واعتنائهم بها منذ قديم الزمان، ولم يذكرهم مؤرخ ولا شاعر إلا ذكرهم باقتنائهم أفضل سلالات الخيل، ولي وقفة حول هذا الموضوع في مقال آخر.
يقول الشاعر العماني الكبير بن عديم الرواحي:
وما رجاء بني ياسٍ على خطأٍ
فإنّما القوم أعوانٌ وإخوانُ
قومٌ على صهواتِ الخيل طفلهمُ
يربو لهُ من دمِ الأبطالِ ألبانُ
ويقول المؤرخ العماني سالم السيابي في كتابه «إسعاف الأعيان» عندما ذكر قبيلة بني ياس: «وتلتف عليهم قبائل عديدة، تتعلق بهم في مهماتها أمم، وبنو ياس هم الصميم فيهم، أهلاً ببني ياس بن عامر، أهل الخيل والخيول، ولهم الفضل الذي لا ينكر».
وقد جاء في كثير من أخبار الرحالة والوثائق الإنجليزية وغيرها من الدواوين الشعرية المخطوطة القديمة اعتناء آل نهيان الكرام بالخيول العربية الأصيلة، وعندما ذاع صيت الشيخ زايد الأول في العرب بدأ الأمراء والشيوخ يهدونه الخيل، ولديه نسل خيول أجداده، لكن لم نعرف من هذه السلالات الأصيلة إلا ما جاء في بعض الوثائق والأشعار، مثل هدية الشريف عون شريف مكة الذي أخذ صورة له الرحالة الألماني هرمانت بورخارت الذي زار أبوظبي عام 1904 والتقى الشيخ زايد الأول، وذكر هذه الهدية مبارك العقيلي في قصيدته التي يمدح بها الشيخ زايد بن خليفة فقال:
إمام يطيعه حضرها والبوادي
وهاداه من يدعى بمكة أميرها
وكذلك أهداه الشيخ حمد بن علي آل خليفة حصاناً عربياً من سلالة شويمان، وأرسل له أبياتاً معها، وردَّ عليه الشيخ زايد بأبيات جميلة، وقد وجدت عدة وثائق من وصول هدايا الشيوخ وسلاطين عمان والأمراء لأبوظبي حباً وتقديراً لشيخها الجليل ولأنجاله. ولأنَّ سلالة ربدان موجودة أصلاً عند الأشراف واقتناها الشيوخ آل خليفة وسلاطين عمان منذ زمن الشيخ محمد بن خليفة والسيد سعيد بن سلطان وأهدوا منها، فلا أشكَّ أنَّ الشيخ زايد الأول إما أن يكون أهدي من سلالة الربد وأنتج منها، أو أنه ورثها من أسلافه، يدل على ذلك قصيدة الشيخ علي بن سالم بوملحا المرر:
دعْنَا نصبّحهمْ على ظهر رَبْدان
تَصْبح حلايبْهُم تِسَـــــحّبْ شمَلْها
فإذا علمنا أنَّ هذه القصيدة قيلت عام 1889 تقريباً، فلا يعقل أن يهدى ربدان بعد وفاته عام 1909 كما سيأتي؛ لأنَّ عمره سيكون كبيراً حينذاك ولا يهدى من كان في عمره، وإن كان الجواد العربي ليس كغيره من الخيول، فهو يعيش ما بين 25 و30 سنة، لكن لا يعقل الإهداء في هذا العمر، فصح إذاً أنَّ الشيخ زايد الأول أنتج من ربدان ولديه أيضاً ربداء، أو أنه أهدي حصان ربدان آخر غير الأول، والذي يقطع الشك باليقين وجود رسالة مهمة تدل على اعتناء الشيخ زايد الأول بسلالة الربد، هذه الرسالة التي نشرها أخي سعيد بن كراز في كتابه «رسائل من عهد الشيخ زايد بن خليفة»، وهي رسالة من سعيد بن محمد الحارثي إلى الشيخ أحمد بن هلال الظاهري سنة 1905م، ومنها قوله:
«إننا قد سيرنا الفلوة بنت الأربد لحضرة جناب زايد بن خليفة بعدما أشار إلينا يطلب أمهّا، وأمها غير لائق القود بها حالاً؛ لأنها أولاً كانت باطي مدني، وقد أفلت ليلة عاشر بحصان، ولذلك لم تستطع القود؛ لأنه لا شكَّ أنَّ القود لها مضر، وأحببنا تصدير ابنتها لحُسن ظننا فيها؛ لأنها ربداء نص من أمها وأبيها، وأما هي بعدها صغيرة سن تكمل السنتين 29 شهر الحالي».
فدل أنَّ هناك ربدان الأول الذي ذكره بوملحا وربدان الثاني الذي حصلت عليه القصة التالية بعد وفاة حاكم أبوظبي.
ربدان بعد الشيخ زايد الأول
بعد وفاة الشيخ زايد الأول طلب الحصان الشيخ بطي بن سهيل حاكم دبي (1906-1912) وكان من المولعين بالخيل، فطلب من الشيخ طحنون هذا الحصان الأصيل، ولكن الحصان كان في طريقه إلى الشيخ عبدالعزيز بن حميد حاكم عجمان، وقيل للشيخ راشد المعلا حاكم أم القيوين، وأنا أستبعد ذلك؛ لأنَّ والدة الشيخ محمد بن زايد الأول هي الشيخ حصة بنت راشد النعيمي؛ فهو أقرب للإهداء، وكانوا معروفين باقتناء الخيول العربية. أمّا راشد المعلا فقد وقعت بعض الخلافات بينه وبين شيخ أبوظبي القوي تمَّ حلها بعد ذلك قبيل وفاته، ولهذا أستبعد أن يكون الحصان أهدي إلى حاكم أم القيوين.
عندما علم الشيخ بطي أن ربدان في طريقه إلى شيوخ عجمان، وهو الفارس الشاعر أرسل قصيدة يقول فيها مخاطباً الحصان ويذكره بفارسه الراحل:
يا غوج ما تذكر إمام عمان
شيخ البوادي والبلدْ
يا ما علاك امطوع السحلان
شيخ يهابه كل حدْ
ليت المنايا ما عدت «ربدان»
من يوم زايد في اللحدْ
فما كان من آل نهيان إلا أن طلبوا من الشيخ سلطان بن زايد الأول، وكان الشاعر فيهم، أن يردَّ على هذه القصيدة، فكان مما قال:
يا شيخ تكفى الهم والاحزان
ما مات من خلف ولد
يا ما عطينا غاليات أثمان
عجلات في رد السندْ
فأجابه الشيخ بطي بقصيدة، منها:
يا شيخنا يا ملتقى الضيفان
يا مبري صلب الرمدْ
عندنا وعندك غاليات أثمان
عجلات في رد السند
ولا ندري ماذا حصل بعد ذلك بهذه السلالة النادرة من خيول الشيخ الكبير زايد.
ربدان في ذاكرة الشعر الشعبي
ورد اسم ربدا وربدان في بعض قصائد العرب المتأخرين؛ فمنها قول الشيخ فيصل بن سلطان الدويش في إحدى حداويه التي تخصُّ الفرسان مثل التشوليب في لهجتنا:
نركب على اللى جدهن ربدان
تفرق عشيرٍ عن عشير
وكذلك يقول الفارس الحميدي بن سحلي بن سقيان شيخ السقايين في إحدى حداويه:
إن كان جاري صدق شينه بان
مـا هـو ولـد عـم قريـب
نركب على اللى جدهن ربدان
مطعومهـن داف الحلـيـب
وجاء أيضاً في شعر علي بن مصبح بو نعاس الرميثي يمدح فيها الشيخ زايد بن خليفة لأنه أهداه حصاناً من هذه السلالة العريقة فيقول:
هــذي عطيتنــا مــن ابن نهيــان
جزل العطايا لى شبوره طويله
ياما عطا لمصبحٍ نصب الأذان
يا زين مصراعه وومية شليلة
يا زين مصراعه يلي لبس الأعنان
شروات ظبيٍ فاسخٍ من مجيله
منسـوب مـا بين الكحيلــة وربدان
يـاخد من العــوده بمـد ومثيلـه
وفي هذه الأبيات دليل على أنَّ ربدان بقي ينتج ويهدى منه في عصر الشيخ زايد الأول، وإن أصبح من سلالة أخرى بسبب أنَّ أمه الكحيلة كما جاء في القصيدة.
وفي الختام، نعلم أنَّ سلالة الرّبد سلالة عريقة عُرِفَت بسرعتها وقوتها؛ لهذا كانت مهمة في الحروب القديمة، وقد تملَّكها عدد من شيوخ القبائل العربية، وقد اشتهر بها عدد من الفرسان والأمراء والشيوخ، ومنهم الشيخ زايد الأول، رحمه الله، ولا يزال نسلها موجوداً حتى اليوم.