49,836 عدد المشاهدات
فاطمة محمد البغدادي – كاتبة وباحثة مصرية
قديمــاً قيل: المُستحيلات ثلاثة؛ أوَّلها الغول، وثانيها العنقاء، وثالثها الخِلُّ الوفيُّ.. يقول الشاعر:
لمَّا رأيت بني الزمان، وما بهم
خِلٌّ وفيٌّ للشدائد أصطفي
أيقنت أنَّ المُستحيل ثلاثة
الغول والعنقاء والخِلُّ الوفي
وبعيداً عن الجدلية، في النظرة التشاؤمية للشاعر، تجاه خِله غير الوفي، فإننا نتَّجه مُباشرةً للعنقاء، أسطورة الطيور، محور حديثنا، والتي نُسِجَ حولها الكثير من القصص والحكايات الخُرافية، عبر التاريخ، ليس من قِبَل العرب وكفى، بل وفي حضارات المُجتمعات والشعوب الأُخرى. فماذا عن طائر العنقاء الأسطوري؟ وما هي أهم القصص والحكايات التي نُسِجَت حوله في الموروث الشعبي عند العرب، وعند المُجتمعات والشعوب الأخرى؟
فـــي الـلــغـــة
في اللاتينية، يُطلَق على طائر العنقاء، الفينكس the bird phoenix، وفي اللغة الفارسية، هو الققنوس، أو الققنس، وقِيل بل هو السيمرغ، وهي كلمة من مقطعين، الأوَّل (سي)، وتعني (ثلاثون)، و(مرغ)، وتعني (طائر)، ومن ثمَّ يتشكَّل من المجموعة (ثلاثون طائراً)، وفي اليابانية، هو (وهو ــ أوو)، وفي الصينية، هو (فينج هيوانج)، وتتعدَّد أسماؤه في اللُّغات الأخرى.
بينما في لُغة الضاد: العنقاء، أصلاً مؤنث الأعنق، والكلمة عربية صحيحة، يقول الأصمعي: «رجل أعنق: أي طويل العُنق، ومُعنق أيضــاً.. وفي المُعجم الجامع: عنقاءُ (اسم). عنقاءُ: فاعل، من عَنِقَ… عنقاءُ: مؤنث أعْنَقُ. أعْنَقُ (اسم)، والجمع: عُنْق، والمؤنث: عنقاءُ، والجمع للمؤنث: عنقاوات… وعُنْق، صِفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت، من عنِقَ… لاَ أعْنَقَ مِنْهُ، أي لاَ أحَدَ أطْوَلُ مِنْهُ عُنُقــاً».
وفي معجم الرائد، ورد: عنقاء، مؤنث. وأعنُق: جمع عُنق.. وعنقاء: داهية، و«تلة عنقاء»، أي مُرتفعة طويلة.. وفي لسان العرب، يقول ابن منظور: العنقاء، طائر ضخم، ليس بالعقاب.. وقال الدوسي (كراع النمل): العنقاء، كما يزعمون طائر، يكون عند مغرب الشمس. وأورد الزجاج: العنقاء المُغرب، طائر لم يره أحد.
وفي كتاب العين، العنقاء: طائر لم يبقَ في أيدي الناس من صنفها غير اسمها. وفي معجم الأمثال والحكم للميداني: حلَّقت به عنقاء مغرب، (مثل): يُضرب لما يُئس منه، والعنقاء طائر عظيم، معروف الاسم، مجهول الجسم، وأغرب: أي صار غريبـاً، وجاء وصف هذا الطائر بالمغرب، لبُعده عن الناس، ولم يؤنثوا صفته؛ لأنَّ العنقاء اسم، يقع على الذكر والأنثى، كالدابة، والحيَّة، ويُقال: عنقاء مغرب على الصِّفة، ومغرب على الإضافة. وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي: سُمِّيت عنقاء، لأنه كان في عنقها بياض كالطوق، ويُقال لطول عُنقها… وفي مُفردات اللغة للأصفهاني ورد: وعَنْقَاءُ مُغْرِبٌ، وُصِفَ بذلك، لأنهُ يقالُ كان طَيراً تَنَاوَلَ جَارِيَةً، فأغْرَب بها، ويقول مجد الدين الفيروز أبادي، في قاموسه المحيط: عنقاء مغرب (على الوصف)، وعنقاء مغرب (على الإضافة).
وصـف الــعــنــقـــاء عــنــد الــعــــرب
لقد تحدَّثت الكثير من مؤلَّفات التراث العربي عن العنقاء، وذكرت أوصافها، وعددت خصائصها، ففي كتابه «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات»، يقول القزويني: «إنه أعظم الطيور جُثة، وأكبرها خِلقة، تخطف الفيل، كما تخطَّت الحدأة الفأر». بينما ذكرها الثعلبي، في كتابه الموسوم «العرائس»، قائلاً: «إنَّ العنقاء كانت في كِبر الجَمَل عِظَمــاً، ووجهها وجه إنسان، ويداها يد إنسان، وثدياها ثدي امرأة، وأصابعها كذلك. إنها كانت تسكن جبلاً مُصعداً إلى السماء ميلاً، تبيت فيه، وهي كأعظم ما يكون الطير، وفيها من كُل لون».
وأطال الدميري في كلامه عنها، من خلال كتابه «حياة الحيوان الكبرى»، ومما قاله في وصفها: «إنَّ العنقاء قد انقطع نسلها، فلا توجد اليوم في الدنيا. إنَّ الله خلقها في زمن موسى، وكان لها أربعة أجنحة من كُلِّ جانب، ووجه كوجه الإنسان، وأعطاها من كلِّ شيء قسطاً.. إنَّ لها بطناً كبطن الثور، وعِظاماً كعظام السبع».
وقد قيل إنَّ موطنه الأصلي شبه الجزيرة العربية، وتحديداً في أقصى جنوبها، في اليمن، وإنه يمتاز بالجمال والقوُّة، وإنه يعمر 500 سنة. وفي مصادر أخرى يعمر ألفاً وسبعمائة سنة، وعند طيرانه يُسمع لأجنحته دويّ كدوّي الرعد القاصف، وإنه بعد انقضاء سنوات عُمره، وعندما يوشك على الموت، يترك موطنه، ويسعى صوب فينيقيا، وهي إحدى مناطق الشام، ليختار نخلة شاهقة، ويبني له عشـاً على قمَّتها، ويموت حرقــاً، بعد أن يُضرم في عشه النار، ومن رماده، يخرج مخلوق جديد، في هيئة الدودة الضخمة، ناصعة البياض، لونها كلون اللبَن، تتحوَّل بعد فترة إلى شرنقة، ويخرج من هذه الشرنقة طائر عنقاء جديد، يطير عائداً إلى موطنه الأصلي، في بلاد الشرق السعيد.
حــكــايــات عـــربــيـــة
وحول طائر العنقاء، نسج العرب القُدامى، العديد من الحكايات الأسطورية، التي يغلب عليها الطابع المُغامراتي والتشويقي، خاصة ما يتعلق منها بحكايات ألف ليلة وليلة، حيث كان له مع السندباد الكثير من المواقف المشوِّقة، في رحلاته الخيالية، إلى الجُزر البعيدة. وقد جاء وصفه بأنه «طائر عملاق، يملك رأســاً، وجناحي نسر، ويبلغ طول جناحيه عشرة آلاف باع، وهو قوي للغاية، ويُقال إنه قادر على حمل فيل عملاق بمخالبه».
ومِما يحكيه العرب القدامى، عن هذا الطائر الأسطوري، أنه كان يقع على فريسته مُنقضـاً، حيث ينقضُّ على الطير أثناء طيرانه فيأكله، كما ينقضُّ على الفرائس التي تدبُّ في الأرض، وذات يوم انقضَّ على صبي فذهب به، فسُمِّي طائر العنقاء مُغربــاً لكونه يغرب بكل ما يأخذه. ومما يحكيه ابن الكلبي، ونقله عنه غير واحد من الحكائين العرب: أنَّ أهل الرسِّ كان من بينهم رجلٌ حكيمٌ، بلغ احترام قومه له مبلغــاً عظيمـاً، إلى حد أنهم جعلوه مبعوثــاً ونبيــاً، يأخذون عنه، ويتَّبعون تعاليمه، يُدعى حنظلة بن صفوان، وكان بأرضهم جبل، يُقال له (دمخ)، مُصعد في السماء، وكان يأتيه طائر عظيم، لها عُنق طويلة، وهي من أحسن الطيور، فيها من كل لون، وكانت تقع مُنتصبة، فانقضت على جارية ترعرعت وضمَّتها إلى جناحين لها صغيرين، سوى جناحيها الكبيرين، ثمَّ طارت بها، فأسرع نفر من القوم، إلى حنظلة، وشكوا له مما حدث، فقال (داعيــاً): اللهم خُذها، واقطع نسلها، وسلِّط عليها آفة، فأصابتها صاعقة، واحترقت.
وعند الفردوسي، في (الشاهنامة)، تؤدي العنقاء دوراً بطوليــاً، في صداقتها لـ(زال)، ودوراً مُعاديــاً لـ(اسفنديار)، فهي تُغذِّي (زال)، وتُربِّيه بين أفراخها، في طفولته، وحين يبلغ أشدُّه، ترسله إلى أبيه (سام)، بعد أن تُزوِّده بريشه من جناحيها، لتكون وسيلة اتصاله بها.
وفي ملحمة «منطق الطير»، للعطار النيسابوري (ت 627هـ)، نجد الهُدهد يلعب دور زعيم الطيور، الذي يُكافح من أجل اجتياز الوديان السبعة، ثمَّ الوصول إلى الزعيم الأكبر العنقاء بجبل قاف. وقد ورد للعنقاء ذِكر في واحدة من رسائل إخوان الصفا، وهي رسالة «تداعي الحيوانات على الإنسان»، حيث ورد أنَّ العنقاء هي زعيمة الجوارح من الطيور، ويجلس معها النسور والعقبان والصقور، بينما يجلس «السيمرغ»، زعيم الطيور الأقل رُتبة، مع الطاووس والديك والحمام.
ويذكره الجاحظ، في كتابه «الحيوان»، مُشيراً إلى أنَّ «العرب إذا قالت بهلاك شيء، وبطلانه، قالت: حلقت به في الجو عنقاء مغرب». وقد جاء ذكره في رحلة ابن بطوطة، وتُحفة الدهر للدمشقي، وابن سيده وغيرهم. وذكر الدمشقي، أنه كان يؤتى بريشـُه إلى عدن، ولم يعد له وجود الآن، وأنَّ القدماء أضفوا عليه كثيراً من الصفات الخُرافية. وكان محمد بن إسحاق بن أبي العنبس (275هـ – 888م)، قاضي الصيمرة في الكوفة، وهو شاعر من أهل الفكاهة، أديبــاً عارفــاً بالنجوم، قد وضع كتابــاً بعنوان «عنقاء مغرب»، أسهب فيه بالحديث عن حكايات العرب عن هذا الطائر الخرافي.
وحول العنقاء في الرؤية والأحلام، يقول الدميري، في «حياة الحيوان الكبرى»: «العنقاء في المنام، رجل رفيع مبتدع، لا يصحب أحداً، ومن رأى العنقاء كلَّمته، نال رِزقــاً من قِبل الخليفة، وربما يصير وزيراً، ومن ركب العنقاء، غلب شخصــاً لا يكون له نظير، ومن صادها، فإنه يتزوَّج بامرأة جميلة، ورُبَّما تُعبِّر العنقاء بولد ذكر شـُجاع، لمن أخذها وله امرأة حامل، والله أعلم».
عــنــد قــدمــاء الــمــصــريـيـن
وقد حظي طائر العنقاء الأسطوري، بمكانة كبيرة في الموروث المصري القديم، حيث تُبرزه بعض المصادر المخطوطة، وكذا الحفريات الأثرية، والجداريات التي تعود إلى الأُسر الفرعونية القديمة، وهو يحمل بقايا جسده القديم، ليُقدِّمه إلى مذبح الشمس، ويُلقي بالتحية، وهو يرفرف بجناحيه، إلى جموع المصريين، الذين احتشدوا لرؤيته.. وفي رواية يهبط مُباشرة إلى معبد (رع)، وينتصب رافعـاً جناحيه إلى أعلى، ثمَّ يُصفِّق بهما تصفيقــاً حاداً، وما هي سوى لمحة، حتى يلتهب الجناحان، فيبدوان وكأنهما مروحة من نار، ومن وسط الرماد الذي يتخلَّف، يخرج طائر جديد، فائق الشبه بالقديم، يُعاود الطيران من فوره، وبأوامر من إله الشمس، إلى حيث موطنه الأصلي، في بلاد الشرق.
وفي رواية ثالثة، ورد: لَم يكن في العالم سوى طائر فينيقٍ واحد، وكان يسكن الْجنة، وهي أرض جمال لا توصف، وهي الرابضة خلف الأُفُق البعيد، الذي منه تشرق الشمس بهدوء، بعد ألف سنة، أصبح الطائر يرزح تَحت وطأة عُمره الطويل، وقد دنت ساعة موته. ولأنَّ في العالَم الأرضي موتــاً، على عكس الجنة، التي اكتسب منها المُقدَّرات السماوية والحكمة، شقَّ طريقه إلى الأرض، فقطع البحار والجبال والسهول، حتى استوقفته رائحة اللبان والبخور الصنوبري، المنبعثة من جبال فينيقيا، فبنى عِشَّه على أعلى شجرة أرز، وزوَّده اللبان والمُر والعنبر، وفي الصباح، عندما لاحت خيوط الشمس، شاهد شروقــاً، لم يبصر له نظيراً في جماله، خلال جميع أسفاره، فبدأ ينشد الأغاني السماوية، بصوته العذب الملائكي، وعندما سمعه إله الشمس، خرج إليه، وهو على عربته، التي تجرُّها أربعة أحصنة نارية، ليشكره، وأراد أيضـاً، عند طلبه، أن يريه آلام الناس وعذاباتهم، نقل إله الشمس لطائر الفينيق صورة حيَّة وحسِّية عن الحياة الأرضية، بدأ الطائر الألفي في الصراخ من الغضب والألم، لِما أحسَّ به من عذاب وظُلم بين الشعوب، وبدأ يضرب بجناحيه داخل العش، أجفلت الأحصنة، وضربت بحوافرها الأرض بقوَّة، فطارت شرارات نارية إلى العشّ، كانت كافية لإحراق الفينيق في داخله، لم يُغادر طائر الفينيق عشّه، فاحترق باختياره، مُشاركــاً الشعب في آلامه وعذاباته، وتحوَّل إلى رماد، لكن لم تكن هذه نهاية الفينيق، بل البداية، حيث خرجت بيضة من تحت الرماد، وفي اليوم الأوَّل كبرت، وفي الثاني خرج منها جناحان، وفي اليوم الثالث عاد الفينيق حيـاً، حمل الطائر عشَّه البخوري، وطار به، ليقدّمه على مذبح الإله، ليضعه قربانــاً في معبد الشمس، بانتظار أن يأتي زمن موته الجديد، فيحترق ليولَد من رماده طائر فينيقٍ جديد. وبحسب المُعتقد الديني عند الفراعنة، فقد ورد في نشيد الإله رع، ما نصه: «المجد له في الهيكل، عندما ينهض من بيت النار، الآلة كلها تحب أريجه، عندما يقترب من بلاد العرب، هو رب الندى، عندما يأتي من ماتان، ها هو يدنو بجماله اللامع من فينيقيا، محفوفاً بالآلة».
لقد ارتبط طائر العنقاء، بعقيدة الخلود، التي كانت موجودة بقوَّة في حضارة قدماء المصريين، وفي العهود المُتأخِّرة من الحضارة المصرية القديمة، رُمز للعنقاء بطائر البلشون (مالك الحزين)، الذي ظهر على بعض الجداريات المصرية، باسم الطائر المقدس (بينو) Bennu، وربما يكون هذا الاسم مُستخرَجاً من كلمة Weben، التي تعني الارتفاع والتأنق، وكان فريق من علماء الآثار، قد عثروا على بقايا طائر في هيئة البلشون، إلا أنه أضخم منه بكثير، ويفوق في الحجم جد طيور البلشون الضخمة، التي كانت تعيش في منطقة الخليج العربي، مُنذ ما يزيد على 5000 سنة قبل الميلاد؟!
ولم يكن طائر العنقاء الأسطوري، مُرتبطـاً عند المصريين القدماء بالإله رع وكفى، ولكن ربطه البعض أيضـاً بـ«أوزوريس»، حيث استُخدِم كرمز لشروق الشمس، كما كان له ارتباط عند المصريين القدماء بفيضان النيل، وعقيدة البعث والخلق، حيث نجد له صوراً جدارية، واقفــاً وحده على الصخور المعزولة من الجُزر والأراضي المُرتفعة، خلال موسم الفيضان النيلي، ليُمثل بداية الحياة الجديدة، على تلك الأماكن التي غمرها الفيضان.
وفي مُصنـَّفه الموسوم «بغية الطالبين في علوم وعوائد وصنائع وأحوال قدماء المصريين»، يُشير أحمد بك كمال، إلى أنَّ أقدم تصوير مزعوم للعنقاء، هو ما وجد على مقابر الفراعنة في مصر، وقال: إنَّ العنقاء ربما كانت تُسمّى في اللغة المصرية القديمة «ساج»، ونقل عن ماسبر في كتابه «القراءات التاريخية»، ما ترجمته: «زعم المصريون القدماء أنَّ الصحراء هي مرعى لجميع الحيوانات الخُرافية الضاربة، التي تُصادفها القبائل، كالصنف الخُرافي المعروف بالعنقاء، التي جسمها جسم ابن آوى، ورأسها رأس نسر، ولها سبعة أبزاز».
عــنــد الإغـــريــق والــرومــان
ولكونهما قريبتي الصِلة والاتصال بالحضارة المصرية القديمة، فقد ظهر تأثر وتأثير كل من الحضارتين الإغريقية والرومانية، بالموروث المصري، حول أسطورة العنقاء، التي تُسمّى عند الرومان «الفينيق»، نِسبة إلى مدينة فينيقيا، وفي اللغة اليونانية القديمة كانت تسمى «الفينكس»، وهي كلمة تعني نوعـاً باسقــاً من أشجار النخيل، وقيل إنَّ اسمه مأخوذ من Phoinos، والتي تعني الأحمر الأرجواني. وأوَّل ذِكر لهذا الطائر الأسطوري، في حضارة الإغريق، ورد في أحد أشعار هيسود Hesiod، وذلك في القرن الثامن قبل الميلاد، ولكن ذُكِر بتفصيل أكبر من قِبل المؤرِّخ والشاعر الشهير هيرودوت Herodotus، الذي تحدَّث عن هذا الطائر الأسطوري، إبان القرن الخامس قبل الميلاد، ومما ذكره: أنَّ الفينكس يأتي كل 500 سنة، لكي يُفتِّشَ عن جسد سلفه، حيث إنه -وفقــاً للأسطورة الإغريقية- بعد أن يضع بيضته، يطرح جسد سلفه بداخلها، ثمَّ يأخذها مُتجهــاً بها إلى معبد الشمس في مصر، لإجراء الطقوس، قبل أن يُغادرَ إلى موطنه الأصلي. وشبيه لذلك كتب العديد من المؤرخين والفلاسفة، وهذا أحدهم يقول: هو طائر ضخم، جسده في هيئة الحيوان، وله منقار، وجناحان كبيران، ورقبة طويلة، ووجه قريب الشبه بوجه البشر.. وفي كتابه «النعوت»، تحدث أرسطو طاليس، عن هذا الطائر الخُرافي، كما لو كان طيراً حقيقيــاً، يُمكن صيده، والاستفادة من أجزائه، فيقول: قد تُصاد، فيُصنع من مخالبها أقداح عظام للشرب. ويُتابع مُتسائلاً، ومُجيبــاً في نفس الوقت: وكيف صيدها؟ إنهم يوقفون ثورين، ويجعلون بينهما عجلة، ويثقلونها بالحجارة العظام، ويجعلون بين يدي العجلة بيتــاً، يختبئ فيه رجلٌ، معه نار، فتنزل العنقاء على الثورين، لتخطفهما، فإذا نشبت أظفارها في الثورين، أو أحدهما، لم تقدر على اقتلاعهما، لِما عليهما من الحجارة الثقيلة، ولم تقدر على الاستقلال، لتخلِّص مخالبها، فيخرج الرجل بالنار، فيحرق أجنحتها.
وكان أوَّل مسيحي يُترجم أسطورة العنقاء، ويتحدّث عنها بشيء من التفصيل، كرمز لفكرة البعث بعد الموت، هو كليمنت الروماني.. لقد حظي هذا الطائر الأسطوري بمكانة كبيرة عند الرومان، حيث ذُكِر في العديد من كتابات المشاهير، من الشعراء والأدباء والفلاسفة، وفي حديثه عنه، يقول المؤرخ الشهير بليني Pliny: إنَّ طائر الفينيق يعيش في شبه الجزيرة العربية 540 عاماً، وبعد ذلك يموت في عِشّه، وتنبعث منه رائحة عطرة، ومن نخاع عظامه، تخرج دودة، يظهر منها طائر فينيق جديد.. وقد اتُّخِذ رمزاً لمدينة روما، التي كان يُنظر إليها باعتبارها مدينة عصيَّة على الموت، كما ظهرت صورته على العُملات المعدنية، التي كان يتمَّ التداول بها في الدولة الرومانية.
وفي الموروث الشعبي الروماني، يقول الحكّاؤون الذين عاشوا في القرن الرابع الميلادي، ومنهم كلاوديانوس: هناك في بلاد الشرق السعيد البعيد، تفتح بوَّابة السماء الضخمة، وتسكب الشمس نورها من خلالها، وتوجد خلف البوابة، شجرة دائمة الخضرة.. مكان كُله جمال، لا تسكنه أمراض، ولا شيخوخة، ولا موت، ولا أعمال رديئة، ولا خوف، ولا حُزن، وفي هذا البُستان يسكن طائر واحد فقط، الفينكس ذو المنقار الطويل المُستقيم، والرأس التي تُزيِّنها ريشتان مُمتدتان إلى الخلف، وعندما يستيقظ الفينكس، يبدأ الغِناء بصوت رائع.
وفي كتابه «قيامة الأجساد»، ذكر ترتليان، حكايات هذا الطائر الأسطوري، مُستخدِمــاً إياه كرمز للقيامة، وكان الشاعر لاكتانيوس، قد ألَّف قصيدة طويلة، بعنوان (طائر العنقاء)، هذا هو ختامها: «أيها الطائر، ذو القَدَر والنصيب السعيد، الذي أعطاه الله نفسه أن يولد من ذاته، شهوتها، ومسرَّتها الوحيدة في الموت، كي بهذا تولد، هي التي رغبت قبلاً في أن تموت، فربحت الحياة الأبدية، ببركة الموت».
وقد تجلَّت هذه الأسطورة، خِلال نفس الفترة تقريبـاً، في تحوُّلات أوفيد (ببليوس، أوفيديوس ناسو)، الذي استكمل النسخة الرومانية لهذه الأسطورة، جاعلاً من الفينيق، طائراً خالداً، تتكوَّن حياته من 500 دورة مُتعاقبة، بنهاية كل واحدة منها، يبني الفينيق عِشــاً، على رؤوس أشجار النخيل، من نباتات المُرّ والقرفة والتوابل الأُخرى، ويشتعل العش بفعل أشعة الشمس، ويحترق الفينيق في النار، ومن رماده يخرج آخر صغير، يعيش 500 سنة لاحقة، وحين يشتد عوده، يحمل رماد أجداده، إلى معبد مدينة الشمس… وقد ازداد ذِكر طائر الفينيق في القرون اللاحقة بشكل كبير.
فـــي الــصــيــن
وبالرغم من أنَّ أصل أسطورتها في الشرق الأدنى (شبه الجزيرة العربية، وما حولها)، فإنَّ حضارات الشرق الأقصى عرفت العنقاء على نحو كبير، وفي الموروث الشعبي الصيني، ثمة جماعة من الحكائين، الذين نسجوا حكايات عن أسطورة هذا الطائر، الذي تجتمع فيه صفات جمال الإنسان والحيوان والطير.. لقد كان الصينيون ينظرون إليه، في بعض الحِقب التاريخية، باعتباره واحداً من أربعة مخلوقات روحانية، هي التنين، والعنقاء، والتشلين (وحيد القرن الصيني)، والسلحفاة.. وفي بعض المناطق من المعمورة الصينية، كانت المُجتمعات المحليَّة، تعبُد العنقاء، وتصنع لها التماثيل، لتجلب البركة والحظ السعيد، وقد تباينت أوصاف العنقاء في المؤلَّفات الصينية القديمة، من حقبة تاريخية إلى أخرى، بل ومن منطقة إلى أخرى، وأكثر التفاصيل الوصفية لها، وردت في مخطوطة تاريخية، بعنوان «أريـا»، يقول صاحبها، ويُدعى قه يو، واصفــاً العنقاء: «رأسها رأس ديك، وعُنقها أفعى، وفمها فم عصفور، وظهرها ظهر سُلحفاة، ولها ذيل كذيل السمكة، وألوانها مُتعددة ورائعة، وطولها يصل إلى ستة تشي (أي نحو مترين)». وفي مخطوطة بعنوان «شرح النصوص والكلمات»، ذكر المؤرخ شوي شن، من أُسرة هان الملكية: «إنَّ العنقاء نشأت في بلاد الشرق البعيد، وهي تطير في أنحاء العالم، وتشرب مياه البحر، وتنام في كهف بالليل، وإذا رآها شخص، فإنه محظوظ، على مدار سنوات عمره، وإنَّ بلده تظل تنعم بالسلام والاستقرار».
وفي مخطوطة صينية شهيرة، مجهولة المؤلِّف، بعنوان «أساطير الجبال والبحور»، ورد أنَّ عُروق الريش على رأس العنقاء، تُشكِّل كلمة «أخلاق»، وعلى الجناحين تُشكِّل كلمة «طاعة»، وعلى الظهر تشكل كلمة «إخلاص»، وعلى البطن تشكل كلمة «صدق»، بينما تشكِّل عروق الريش على الذيل، كلمة «رحمة». وتذهب بعض المؤلفات الصينية القديمة، في وصفها للعنقاء، وكأنها تصف الطاووس، في حين ثمة من يصفها وكأنه يصف الديك البري الذهبي، أو طائر الكركي. وفي مؤلَّفات أخرى، يخلطون بينها وبين طائر الرُّخ، وهو أيضاً طائر خُرافي بحري، إلّا أنهم كانوا يُفرِّقون بينهما في الاسم، ومن ذلك ما كتبه تشوانغ تسي، في مُصنـَّفه «الفلسفة الطاوية»، حيث قال: «يوجد طائر رُخ، وما هو برُخ، اسمه بنغ، ظهره ضخم، مثل جبل تاي شان، وجناحاه واسعان، مثل سحابتين سقطتا من السماء، ويطير تسعة آلاف ميل في السماء، ويجتاز السحاب». ومثل ذلك كتب سونغ يون يو، من أسرة هان الملكية، ويُضيف عليه، في مُصنـَّفه (سؤال وجواب)، قائلاً: «يطير العنقاء تسعة آلاف ميل، من الأرض إلى السماء، ويجتاز السُحب، ويحط على قُبة السماء». وفي الأساطير الصينية: تبني العنقاء عِشَّها، وتسكن، على قِمَّة شجرة الباولونيا، وعندما تظهر للناس، فإنَّ ذلك بمثابة بُشرى لمولد حاكم فاضل، وعلامة لعصر جديد مُزدهر، سوف تشهده البلاد.
وكانت الإمبراطورة، تتخذ من صورة هذا الطائر، تميمة لها، للحفاظ على أنوثتها، وحياتها، والإبقاء على مُلكِها، وزواجها السعيد، فيما يتَّخذ الإمبراطور، التنين تميمة له.. وكانت الأسرة الحاكمة تضع صورة العنقاء في شاراتها وراياتها، رمزاً للشمس والعدالة والإخلاص والطاعة.
وفي بعض العصور، كانت العنقاء مُتفوقة في المكانة على التنين، وصارت جنبـاً إلى جنب معه، كرمز للأمة الصينية، في بعد الفترات.. وفي دراسة قيِّمة، لعالم الأنثروبولوجيا والأديب الصيني المشهور وون إي دوا، حول أسطورة العنقاء، في الصين الشعبية، ورد: أنَّ طائر الخُطَّاف البحري، هو أحد الإلهامات الأصلية لصورة العنقاء، وفي قديم الزمان احتلت العنقاء مكانة رفيعة، فاقت مكانة التنين، حيث جاءت مُتقدِّمة في جل الرسومات الجدارية، وكذا الحريرية، إبان أسرة هان الملكية، وفي بعض هذه الرسومات، ظهرت العنقاء وهي تنقر التنين، وأنه خِلال تطوُّر المُجتمع الإقطاعي الطويل، تغيَّرت مكانة العنقاء والتنين رويداً رويداً، حيث أصبح التنين رمزاً للأباطرة، فيما نزل طائر العنقاء إلى المرتبة الثانية، وأصبح رمزاً إلى محظيات الأباطرة، وفي عهد أُسرة تشينغ الملكية، بدأت صورة طائر العنقاء المحبوب لدى أبناء الشعب الصيني، تنتشر وسطهم، حيث اعتاد عامة الناس، استخدام كلمة العنقاء، في تسمية بعض الأطعمة، والملابس، والمباني الفاخرة، وكذا أطلقوها على بعض المُناسبات السعيدة، وغيرها من نواحي الحياة، كما أنهم أطلقوا على بعض الفنانات الجميلات اسم العنقاء، ويُمكن العثور على حكايات وقصص ولطائف العنقاء، في كثير من كُتب الأدب، وكذلك الأعمال الفنيَّة التشكيلية، والمسرحية، والسينمائية، والموسيقية… وفي رثاء الأعزاء، وتخليد ذكراهم، استشهد بها طائفة كبيرة من الشـُّعراء، والحكّائين الشعبيين، الذين أكثروا من الحديث عنها، في الملاحم، والبطولات الشعبية.
خـــاتــمــــة
على الرغم من ادعاءات بعض الناس، عبر التاريخ، أنهم شاهدوا العنقاء، وهو يحلِّق في الأجواء، بل إنه ما بين عامي 1982م و1983م، ادَّعى غير واحد من سُكَّان منطقة برادفورد في إنجلترا، أنهم شاهدوا طيوراً ضخمة، بحجم طائرة رُكاب صغيرة، وأنهم لم يروا مثيلاً لها من قبل، وأيَّدهم في ذلك صحفي في جريدة التلغراف، يُدعى مايك بريستلي، بل وزاد أنه التقط صوراً لها (تبيَّن أن هذه الصور، كانت مُجرَّد سحابة عابرة، أخذت هيئة طائر ضخم)، وكذا ما ادَّعاه بعض السُكَّان في انكوراج (عاصمة ألاسكا)، أنهم رأوا طائراً بحجم طائرة بوينج، وكذا ما ادعاه بعض الأفراد، من سُكَّان تونبيري ويوركشاير وشمال مانشستر في بريطانيا، أنهم رأوا طيوراً ضخمة، حجبت ضوء الشمس، ما دفع بعض المُحررين في وكالة رويتر للأنباء، إلى التحرِّي عن هذه الادعاءات، ونشروا تقريراً حول ذلك، استشرفوا فيه آراء عدد من كِبار العُلماء والباحثين، الذين شككوا في الراويات.. فإننا نقول: على الرغم من كل ذلك، تظلُّ العنقاء أسطورة الطيور، ورمزاً من أهم الرموز، في الموروث الشعبي، عند جلِّ أمم وشعوب البسيطة.
أهـــم الــمــصــادر والــمــراجــــع
أوَّلاً- الــمــــصـــــادر:
– ابن منظور: محمد بن مكرم: لسان العرب – دار صادر – بيروت (بدون تاريخ).
– ابن دريد: محمد بن حسن: جمهرة اللغة – طبعة دائرة المعارف العثمانية – حيدر أباد 1345هـ.
– ابن زكريا، أبو الحسين أحمد بن فارس: معجم مقاييس اللغة – تحقيق عبدالسلام محمد هارون – الناشر دار الفكر – دمشق 1399هـ/ 1979م.
– الدميري، كمال الدين محمد بن موسى: حياة الحيوان الكُبرى – دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر – دمشق 1992م.
– القزويني، زكريا بن محمد بن محمود الكوفي: عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات – منشورات الأعلمي للمطبوعات – الطبعة الأولى – بيروت 1421هـ/ 2000م.
– الثعلبي، أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري: عرائس المجالس – مكتبة الجمهورية العربية بالأزهر – القاهرة (بدون تاريخ).
– الفردوسي، الحكيم أبو القاسم: كتاب التيجان (الشاهنامة) – ترجمة الدكتور عبد الوهاب عزام – الطبع الأولى – دار الكتب المصرية – القاهرة 1350هـ/ 1932م.
– النيسابوري، أبو الفضل أحمد بن محمد بن إبراهيم الميداني: مجمع الأمثال والحكم – تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد – دار الفكر – الطبعة الثالثة – دمشق 1972م.
– إخوان الصفا: رسائل إخوان الصفا وخلان الألفة والوفا (رسالة تداعي الحيوانات على الإنسان) – تحقيق خير الدين الزركلي – المكتبة التجارية – القاهرة 1928م.
– الجاحظ، عمرو بن بحر: كتاب الحيوان – تحقيق عبد السلام هارون – دار الجيل – بيروت 1996م.
– الفيروز أبادي، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب: القاموس المُحيط – الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع – الطبعة الثامنة – بيروت 1426هـ/ 2005م.
– الفراهيدي، أبو عبد الرحمن، الخليل بن أحمد: كتاب العين – دار الكتب العلمية – بيروت 1424هـ/ 2003م.
– الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد: مُفردات اللغة – الدار الشامية، ودار القلم – دمشق 1430هـ/ 2009م.
– النيسابوري، فريد الدين العطار: منطق الطير – ترجمة بديع محمد جمعة – آفاق للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى – القاهرة 2014م.
ثـــانـــيـــــاً- الـــمـــراجـــــع الــعـــربـــيـــــة:
– عوض، ريتا: أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث – الطبعة الأولى – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 1978م.
– حلاوي، يوسف: الأسطورة في الشعر العربي المعاصر – دار الآداب – الطبعة الأولى – بيروت 1994م.
– خليل، أحمد خليل: معجم الرموز – دار الفكر اللبناني – بيروت 1995م.
– النميري، حسن محمود موسى: دنيا الحيوان في التراث العربي – الجُزء الثاني – منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب – دمشق 2008م.
– ذكي، أحمد كمال: الأساطير، دراسة حضارية مقارنة – مكتبة الشباب – القاهرة 1975م.
– المصري، حسين مجيب: الأسطورة بين العرب والفرس والتّرك – مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة 1991م.
– كمال، أحمد بك: بغية الطالبين في علوم وعوائد وصنائع قدماء المصريين – طبعة مدرسة الفنون والصنائع الخديوية – بولاق – القاهرة 1309هـ.
– العبودي، محمد بن ناصر: مُعجم الحيوان عند العامَّة – الجُزء الثاني – مكتبة الملك فهد الوطنية – الرياض 1432هـ/ 2011م.
ثــالــثــــاً- الـــدوريــــات:
– جعفر، إحسان: أسطورة العنقاء في الأدب والأمثال – مجلة الفيصل – شهرية – العدد 118- ربيع الآخر 1407هـ/ ديسمبر 1986م – تصدر في الرياض (الملكة العربية السعودية) .
رابــــعـــــاً- الــمـــراجـــع الأجــنــبــيـــة:
- Cassirer, Ernst. An Essay on Man: An Introduction to a Philosophy of Human Culture, ــ
Yale University Press: New Haven, 1944. - Firth, Raymond, ed. Man and Culture: An Evaluation of the Work of Bronislaw ــ
Malinowski. London: Routledge and Kegan Paul, 1963. - Agnes, Michael, ed.: Webster’s New World Dictionary, New York-London: Pocket ــ
Books, Fourth Edition, 2003.