خلف بن عبدالله العتيبة

أعلام الراوي مجلة مدارات ونقوش – العدد 18 - 19

 8,909 عدد المشاهدات

 الكاتب : جمال بن حويرب 

كثيرون هم التجار الذين عاشوا على وجه البسيطة ثمَّ رحلوا وكأنهم لم يمشوا عليها، ولا يتذكَّرهم الناس بعد جيلين أو حتى جيل واحد، ولكن هناك قلَّة منهم عرفوا حقَّ الله في أموالهم، وعلِموا أنَّ الفناءَ هو المصيرُ المحتم؛ فتداركوا أمرهم وبنوا جسوراً بهذه الأموال توصلهم إلى الآخرة، فعمروا المدارس والمساجد، وأوقفوا الأوقاف عليها، فبارك الله في أموالهم وأعمارهم، وخلَّد التاريخُ أسماءَهم في سجله الذهبي؛ فهم باقون إلى ما شاء الله، وكما قال أسطورة الشعراء المتنبي:

لولا المشقَّةُ سادَ النّاسُ كُلُّهُمُ

     الجودُ يفقرُ والإقدامُ قتّالُ

ومن هؤلاء التجار الكرام الوجيه خلف بن عبدالله بن عتيبة، رحمه الله تعالى، فدعونا نتعرَّف إلى بعضٍ من سيرة حياته.

الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان يتوسط عمه الشيخ خليفة بن زايد الأول والوجيه أحمد بن خلف العتيبة أثناء توقيع أول اتفاقية للبترول في الثاثينيات
الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان يتوسط عمه الشيخ خليفة بن زايد الأول والوجيه أحمد بن خلف العتيبة أثناء توقيع أول اتفاقية للبترول في الثاثينيات

لم يكن والد خلف- وهو من أهالي إمارة أبوظبي– ذا تجارة ولا صاحب أموال، بل كان من عامة الناس المجتهدين في طلب الرزق الحلال من سعيهم، وليس لدينا معلوماتٌ كثيرةٌ عنه ولكن الغالب على آل عتيبة الكرم وحسن الأخلاق ودماثتها، ولا بدَّ أن يكونَ هذا الأمر قد توارثته العائلة منذ عهدٍ بعيد.

في هذا البيت الكريم وُلِدَ خلف بن عبدالله في سنة 1840 تقريباً، وتربى كما يتربى أهل ذلك الزمان على الاجتهاد والصبر على الشدائد منذ صغرهم، فلم تعرف الإمارات المدراس الدينية التي تشبه قليلاً المدارس النظامية حتى بداية القرن العشرين؛ مثل المدرسة الأحمدية في دبي، ولم تكن هناك مواردُ للرزق واضحة المعالم إلا تجارة اللؤلؤ، وهي التجارة الكبرى في الخليج العربي، ومن أثرى من أهلها فإنما أثرى بسببها.

تعلَّم خلف العلم في الكتاتيب القديمة التي ساعدت المجتمع الأمي قليلاً على تخطّي مرحلة الجهل المطبق؛ فكانوا يتعلَّمون مبادئ القراءة والكتابة وبعض أجزاء القرآن، والمحظوظ منهم مَن يوفِّقه الله فيتعلَّم شيئاً من الحساب وطريقة كتابة الرسائل على النموذج القديم.

عمل مبكر

لم يكن التعليم كما ترونه طويلاً من الروضة إلى المرحلة الثانوية، ثمَّ إلى سنوات الجامعة، بل كان لسنواتٍ معدودةٍ، ثمَّ ينصرف الرجل إلى أعماله أو مساعدة والده في تجارته، ولا تسعفنا المصادر عن بداية خلف العملية ولكنها كانت مبكِّرة؛ فاشتغل في أعمال اللؤلؤ وتدرَّج فيها حتى ظفر بلؤلؤة نادرة حوَّلته إلى تاجر، بل من أكبر التجار بعد ذلك وكما قيل:

وما يدري الفقيرُ متى غناهُ

     وما يدري الغنيُّ متى يعيلُ

هكذا بدأت تجارة خلف العتيبة تزدهر، وأظنُّها بدأت في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر؛ لأنَّ سمعته بين الناس أخذت تنتشرُ في هذا الوقت، ثمَّ ازدهرت جداً في مطلع القرن العشرين. ومن يقرأ عن سوق اللؤلؤ العالمي يجده مزدهراً جداً في هذه الحقبة، وكانت أسعاره تزداد بشكل كبير، ما دفع باليابان أن تخترعَ اللؤلؤَ الصناعيَّ فيما بعد، والذي قضى على سوق اللؤلؤ الطبيعي تدريجياً خلال ثلاثين سنة.

لما منَّ الله على خلف بن عبدالله العتيبة بالمال الوفير، لم يكنزه ولم يخَفْ عليه من الضياع كما يفعل بعض الأغنياء الذين عاشوا الفقر، بل أنفقه في سبيل الله حيث قام بشراء أرض قرب منطقة «الظهر» في إمارة أبوظبي، ثمَّ حوَّلها إلى مدرسة مكوَّنة من مجموعة خيام محاطة بجدار من سعف النخيل، وقد عُرِفَت هذه المدرسةُ بمدرسة العتيبة.

ولو تفكَّرنا قليلاً عن علوِّ همَّة هذا الرجل المحسن، لعلمنا أنّه لم ينسَ نفعَ أهله وقومه بأهمِّ شيءٍ في الدنيا؛ ألا وهو العلم والصحة كما سيأتي.

جاء في بعض المصادر أنه بنى المدرسة في أواخر القرن التاسع عشر، ولا أظنُّه يقارب الصحة، بل بدأت المدرسة تقريباً في وقت مقارب للمدرسة الأحمدية في دبي، والذي أرجحه أنها بدأت بعد سنة 1905 تزيد أو تنقص قليلاً؛ لأنَّ الشيخين عبدالعزيز بن حمد المبارك افتتح التدريس في الأحمدية، والشيخ عبداللطيف بن إبراهيم المبارك افتتح التدريس في مدرسة العتيبة، وقد قَدِما في الفترة نفسها كما ذكر ذلك الشيخ أحمد المبارك، رحمه الله، ولأنَّ القاضي الشيخ مجرن من أوائل من درسوا فيها وهو مولود سنة 1903.

بقيت هذه المدرسة الفريدة من نوعها في أبوظبي تُعلِّمُ الطلبة الذين يزيد عددهم على عشرين طالباً في السنة، وكانت مناهجها تتكوَّن من مناهج المدارس الدينية كالقرآن والفقه المالكي وتعليم القراءة والكتابة والنحو وعلوم اللغة، وأضاف عليها خلف تعلُّم السالمية، وهي تعليم مسك دفاتر الغوص، وقد تفرَّدت به هذه المدرسة عن غيرها.

ودرّس فيها علماء كبار من أمثال الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم المبارك، والشيخ عبدالعزيز بن حمد المبارك، والشيخ عمر السالك الشنقيطي، والشيخ راشد المبارك، والشيخ محمد الكندي وغيرهم من العلماء الذين يحضرون لزيارة أبوظبي على فترات متقطعة.

ومن  أبرز من تخرَّج فيها الشيخ مجرن بن محمد الكندي، وعبدالله بن غنوم وسلطان بن يوسف، رحمهم الله تعالى.

مجلس العلماء

كان العلماء لا ينقطعون عن مجلس خلف، بل يَفِدون إليه من الشرق والغرب ومن مكة ومن الأحساء ومن إيران، وهو يجلُّهم ويُكْثِرُ من تقديرهم وإكرامهم، وهذا هو واجب أهل المال والسلطة، فمن لم يدرك العِلْمَ منهم فأقلُّ حقِّ العِلْمِ أن يُقَدِّروا أهلَه.

في سنة 1909 وبينما كان خلف في رحلة إلى دبي، حيث لم يكن ينقطع عنها بسبب تجارته، تعرَّضت دبي إلى هجوم ظالم من قِبَل المدمرة «هيانست» التابعة للقوات البريطانية بحجة وجود السلاح عند بعض الأهالي، يقول حفيده السيد سعيد بن أحمد:

«كان جَدي خلف في دبي عندما أغار الإنجليز عليها؛ فتصدّى لهم شيوخ آل مكتوم وعامَّة بني ياس، ولم يتخلَّف جَدي خلف عنهم، بل ساعد بما يستطيع في ذلك الوقت».

وتصديقاً لهذه القصة يقول الشاعر الكبير سعيد بن عتيج الهاملي مادحاً خلف، وذاكراً قصة الحرب التي نسميها حرب السلوجر:

شروى خلف ما ريت مثله حدي

     لى بالكرم ما له قياس وحدّي

يوصل بعزمٍ ماضيات الحدّي

     يثقل ومن ثقله يثقّل غيره

يوم النصارى شب نار ورايه

     ما سار في شور الخفيف ورايه

لين الكفر ذلت وشلوا رايه

     حتى المشاوي عقّت البنديره

 هذا مثالٌ ضربته لكم، وله مواقفُ أخرى تدلُّ على صدق هذا الرجل وعزمه، رحمه الله.

 

إسهامات وطنية

وقد شارك أيضاً في عهد الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان في بعض الحروب، وأبلى مع قومه بلاءً حسناً في الدفاع عن بلاده، وشارك بماله وأولاده لكبر سِنّه حينئذ، وعن ذلك يقول الشاعر الأحسائي السيد عبدالله بن السيد أحمد الهاشم رحمه الله:

فسل عنه فرسان الجحافلِ في الوغى

     وسلْ عنه في نادي الكرامِ تجد خبرا

  بأصدقهم قولاً وأمنعهم حمى

     وأوسعهم رفداً وأكثرهم فخرا

إلى آخر هذه القصيدة الطويلة.

مساجد

 أمّا المساجد في حياة خلف فلها شأنٌ عظيمٌ؛ فقد كان من الطبيعي أن يبنيها خلف أينما حلَّ، فبنى في أبوظبي المسجد الجامع في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، والذي حلَّ مكانه مسجد الشيخ خليفة فيما بعد، وكذلك بنى المسجد الجامع في دبي، والذي يسمّى مسجد «بو منارة» في منطقة الجميرا، وسميت المنطقة عليه. وبنى مسجداً آخر صغيراً سنة 1914 في منطقة الشندغة، ولا أعلم عن مشروعاته الأخرى الخيرية، ولكن من كان هذا حرصه، فلا غرو أن يكون عمل أعمالاً صالحة كثيرة.

في سنة 1926 استدعى خلف بن عبدالله طبيباً من البحرين اسمه محمد محمود بهزاد، ليعالج الناس على حسابه، يقول هذا الطبيب في كتابه الوجهة الذهبية: «في عام 1926 استدعاني خلف العتيبة إلى أبوظبي لعلاج الناس، وهو أحدُ الفضلاء ومحبٌّ للعلماء، وهو رجلُ دينٍ وعملٍ ودنيا، عسى الله أن يتوِّجَه تاجَ الجنة والمغفرة».

بقي مجلس خلف عامراً بالضيوف من كلِّ مكان؛ علماء وأعيان وشعراء ومن عامة الناس، لأنه كان يجلُّ الناسَ ويحترمهم ويقف بجانبهم، مثله مثل التاجر أحمد بن دلموك في دبي، فهما شجرتان مثمرتان سُقِيَتا بماء الجود والدين والمعالي.

في سنة 1929 عمَّ العالَم ما يسمّى «الكساد الكبير» حيث بدأ بانهيار الأسهم الأمريكية في 29 أكتوبر من العام نفسه، ثمَّ شمل الأرض فكان تأثيره مدمراً في الدول الغنية والفقيرة، ومنطقة الخليج لم تسلم منه؛ لأنها كانت في ذلك الوقت تعيش على تجارة اللؤلؤ، وعلى تجارات أخرى صغيرة. ومن يقرأ قصيدة الشاعر الأحسائي السيد عبدالله الذي وجهَّها لخلف العتيبة فسوف يحزن لأوضاع الناس في تلك السنوات الصعبة. وفي الوقت نفسه كان اللؤلؤ الصناعي يهدِّد الخليج من جهة أخرى، فقبيل سنة 1930 بدأت تجارة اللؤلؤ في الخليج بالانهيار التدريجي؛ بسبب اكتشاف اليابان الؤلؤ الصناعي، الذي اكتشفه «ميكيموتو كويتشي» سنة 1893، وعرض أول لؤلؤة منها في النرويج سنة 1897، ولكنه لم ينجح في الوصول إلى الشكل المطابق للؤلؤ الطبيعي حتى سنة 1920؛ إذ بدأت اليابان تبيعه بكميات تجارية.

يقول السيد عبدالله عن حالة الخليج سنة 1930:

الناس في حال منحل العرا وانكد

     في عيشة الضيق لا مالٍ ولا حالِ

ضعفٍ تدانى فلا تلقى حدٍ مستد

     ولا ذبيلٍ لكدّادٍ وعمّالِ

التاجر العود آزم ضايعٍ منضد

     والنوخذه الدون ماله عنده اقبالِ

وملازم الغوص لا يعطى ولا ينرد

     لا حي يرجى ولا من ميت يعزا لي

والغوص راعيه لو يعطا منَهْ يود

     ما مدّ يومٍ ولا بشّر بقفالِ

وبعد أن ذكر معاناة الناس ومآسيهم استنجد بصاحبه «أبوأحمد»، خلف العتيبة فقال له:

ما أشوف إلا غياث الدار بو أحمد

     خلف حليف الوفا لى ضاق لميالِ

للسيف والضيف للتدريس والمسجد

     وصفطان ما حاز من جودٍ وما نالِ

لم ينشد هذه القصيدة السيد عبدالله في مدح خلف، إلا لمعرفة الشاعر بأنَّ خلف أهلٌ لأن يقومَ بمساعدة الناس على مصائب الدهر، وطلب منه أن يساعد على كفِّ الناس عن بعض المظاهر السلبية التي ظهرت في المجتمع آنذاك.

رُزِقَ خلف بأولاد نجباء اتبعوا طريقه في التجارة، والمعروف أكبرهم نجله أحمد الذي قام بمهمات والده، وناء بأعباء تجارته، وكان من المقربين من المغفور له الشيخ شخبوط بن سلطان حاكم أبوظبي آنذاك، وله تاريخٌ حافلٌ، ورُزِقَ خلف أيضاً بعبدالله وراشد، رحمهما الله تعالى.

طال عمر خلف، وتقدَّمت به السِّنُ ولم تتأثَّر تجارته كثيراً بالأزمات الدولية؛ لأنَّه كان كثير الصدقات ونفع الناس، فبارك الله في ماله وعمره. وعندما تعب عن المشي إلى الصلاة حُمِل إليها من شدة حرصه على صلاة الجماعة.

وفي ثلاثينيات القرن الماضي، انتقل المحسن الوجيه خلف بن عبد الله العتيبة إلى جوار ربه بعد قرابة قرن قضاه في أعمال البر والعلم والصلاح، رحمه الله وجعل جنة الخلد مثواه.