1,970 عدد المشاهدات
الكاتب: عبدالغفار حسين
عبدالحميد بن يحيى الكاتب، أشهر من أن يُعرّف في تاريخنا الأدبي والثقافي، فهو أحد أكبر الكُتَّاب في تاريخ الكتابة العربية، وصنو ابن المقفَّع، بل تتلمذ ابن المقفَّع على يديه، وكلُّ من جاء بعد عبدالحميد من الكتَّاب كانوا عيالًا على ما خطَّه لهم في الكتابة من أسلوب. كان كاتباً للأمويين، وكان مُقرباً لآخر الخلفاء الأمويين، مروان بن محمد الذي كان مثقفاً مثل عبدالحميد، وكان مروان يحبُّه ويعتمد عليه.. وكان دعاة العباسيين يعتبرون قلمه سيفاً يحاربهم أكثر من قُواد بني أمية العسكريين، وكانوا يخططون لاغتياله قبل اغتيال الخليفة.
نصحه مروان بالهروب والاختفاء عندما أحس أن شوكة العباسيين قد اشتدت، وأن نهاية دولة الأمويين قد دنت، وقال له انفد بجلدك، فوجودك أنفع للأمة مني، ولما رفض أن يفعل ذلك، اقترح عليه أن يلحق بالعباسيين تائباً مظهراً العداوة له وللأمويين، وقال مروان: أرجو أن تتمكن منهم فتنفع نفسك وأهلي، وكان جوابه الرفض أيضاً، وقال إني لا أغدر، ولك علي الصبر معك إلى أن يفتح الله عليك أو أقتل معك. وقبض على عبدالحميد يوم مقتل مروان بن محمد، آخر الخلفاء الأمويين، وتعرض إلى تعذيب وحشي قبل أن يسلم الروح، حيث كان معذبوه في سجنه، يحمون طشتاً من النحاس ويضعونه على رأسه!!
وأحسن رسائل عبدالحميد، هي رسالته إلى الكُتَّاب التي تعتبر بمثابة دستور أو قانون أساسي لما ينبغي أن يسير عليه معشر الكُتَّاب.. وهذه الرسالة آية في الحِكَم والأمثال والمعاني، وقلَّما يوجد لها نظير في العربية وفي غير العربية، وهي طويلة.. وأورد هنا اختصاراً لها.
وتدل هذه الرسالة على ما بلغه العرب من شأن حضاري متقدم.
“أما بعد، حفظكم الله يا أهل هذه الصناعة، وحاطكم ووفَّقكم وأرشدكم، فإنَّ الله- عزَّ وجلَّ- جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين، ومن بعد الملوك المكرمين، سوقاً، وصرفهم في صنوف الصناعات التي سبَّب منها معاشهم، فجعلكم معشر الكتاب في أشرفها صناعة، الأدب والمروءة، والحلم والروية، وذوي الأخطار والهمم وسعة الذرع في الأفضال والصلة، بكم ينتظم الملك، وتستقيم للملوك أمورهم، وبتدبيركم وسياستكم يصلح الله سلطانهم ويجتمع فيهم، وتعمَّر بلادهم، يحتاج إليكم الملك في عظيم ملكه، والوالي في القدر السني والدني من ولايته، ولا يستغني عنهم منكم أحد، ولا يوجد كافٍ إلا منكم، فموقعكم منهم موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى استخراج خال الخير المحمودة، وخصال الفضل المذكورة المعدودة، منكم أيها الكتَّاب، إن كنتم على ما سبق به الكتَّاب من صفتكم، فإن الكاتب يحتاج من نفسه، ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره، إلى أن يكون حليماً في موضع الحلم، مقداماً في موضع الإقدام، ومحجماً في موضع الإحجام، ليِّناً في موضع اللين، شديداً في موضع الشدة، مؤْثِراً للعفاف والعدل والإنصاف، وفياً عند الشدائد، يكاد يعرف بغريزة عقله، وحسن أدبه، وفضل تجربته ما يرد عليه قبل ورده، وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره، فيعد لكل أمر عدته، ويهيئ لكل أمر أهبته، فنافسوا، معشر الكُتَّاب، في صنوف العلم والأدب، وتفقهوا في الدين، وابدأوا بعلم كتاب الله عز وجل، والفرائض ثمَّ العربية، فإنها ثقاف ألسنتكم، وأجيدوا الخطَّ، فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم، وأحاديثها وسيرها، فإن ذلك معين لكم على ما تسمون إليه بهممكم، بأنفسكم عن المطامع سنيّها ودنيّها، ومساوئ الأمور ومحاقرها، فإنها مذلة للرقاب، مفسدة للكتاب، ونزِّهوا صناعتكم، واربأوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة، وما فيه أهل الدناءة والجهالة، وإياكم والكبر والعظمة، فإنها عداوة مجتلبة بغير إحنة، وتحابوا في الله- عز وجل- في صناعتكم، وتواصلوا عليها، فإنها شيم أهل الفضل والنبل من سلفكم، وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه، حتى ترجع إليه حاله، وإن أقعد الكبر أحدكم عن مكسبه ولقاء إخوانه، فزوروه وعظموه وشاوروه، واستظهروا بفضل رأيه وتجربته وقديم معرفته، وليكن الرجل منكم على مااصطنعه واستظهر ليوم حاجته إليه، أحدب وأحوط منه على أخيه وولده، فإن عرضت في العمل محمدة فليضفها إلى صاحبه، وإن عرضت مذمة فليحملها من دونه وليحذر السقطة والذلة والمال عند تغيُّر الحال »
أبعد هذا الكلام الذي سمعناه من أبي الكُتَّاب، عبدالحميد الكاتب، كلام آخر يصاغ في أدب الكاتب وفي دساتير الأدباء والكتاب؟!
أليس من حقِّنا أن نتباهى بأنَّ هذه المذكرة التي وضعها عبدالحميد الكاتب، هي التي مهَّدت لقيام الاتحادات والجمعيات ذات النفع العام في العالم ومنها اتحاد الكتاب والأدباء؟!
أليس عبدالحميد الكاتب يجعل من مفردات اللغة العربية في هذه المذكرة الرائعة درراً تنثر علينا في ليلة فرح بهيج؟!