4,651 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
رحلاتُ المسلمين إلى الدِّیار المقدَّسَةِ، عَبْرَ القرونِ الماضيةِ كثیرةٌ من كلِّ أصقاع الدنيا، ومن كلِّ فجٍّ عميق. وقد دوَّن كثیرٌ من العلماء والأدباء رحلاتِهم إلى مكَّةَ المكرَّمةِ وطیبةَ الطیِّبةِ؛ تبرُّكاً بھا وتخليداً لرحلة العمر، ومن أشھرھم ابنُ جبیر وابنُ بطوطة، وغیرھم كثيرون إلى وقتنا ھذا؛ فأھلُ القلمِ يسجِّلون ذكريات رحلاتِهم في موسمِ الحجِّ، ویرون فیھا بركةً ومتعةً وفائدةً، بسبب عظمة المكان والزَّمان التي دارت فیھا ھذه الذكريات والأحداث.
وإذا علمنا أنَّ المسلمين منذُ العھد الإسلامي الأوَّل، يسجِّلون أحداثَ رحلاتِھم إلى بلاد الحجاز نثراً وشعراً، فما بال الأوروبیين قد أولعوا بالحجِّ خلال القرون الماضية؛ فتنكَّروا بزيِّ الإسلام وقدموا مع المسلمین بأسماء وھمیة، لیشاھدوا مناسك الحجِّ، ویكتبوا ما رأوه، وینقلوه إلى دولھم؛ فمنهم من قدم للتجسُّس، ومنهم للاستكشاف، وبعضھم الآخر دفعھم فضولهم لمشاهدة الكعبة المشرَّفة ولقاء الحجَّاج، فكان منھم المنصفون الذین كتبوا الحقيقة، وقد دخل بعضهم في دين الله، ومنھم دون ذلك من الكذّابین الذین نقلوا صوراً سیئة كاذبة، لتشویه صورة المجتمع الإسلامي، بل ثبت أنَّ منھم من لم یزُرْ مكَّةَ قط، وإنما نقل عن غیره، وزعم أنه زار الحجاز؛ فكانت قصصُه وھمیَّةً من وحي خیاله، واستخدم معلومات رحّالة آخرین.
تلمیذ أرسطو ثیوفراستوس ذكر النباتات التي تنبت في البلاد العربیة وذكر الأقالیم
وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ اھتمامَ الغرب ببلاد العرب لیس بحدیث؛ فقد خصَّھم بالذكر، الیوناني إخلیس في القرن الخامس قبل المیلاد، ومثله الرَّحالة الیوناني ھیوردتس، وھو من أوائل الأوروبیین الذین ألَّفوا كتباً في التاریخ والرحلات، وقد زار الشرق وخصَّ العرب والفرس ومصر بالذكر في كتابه، وقد نقد كتابَه كثیرٌ من العلماء بسبب قصصه الخرافیة، مع أنه یُسمَّى حتى الیوم «أبو التاریخ»، وھو لقبٌ منحه له الشاعر الروماني شیشرون (ت: 43 قبل المیلاد). وھناك أیضاً تلمیذ أرسطو ثیوفراستوس، وھو متخصِّصٌ في النباتات؛ فذكر النباتات التي تنبت في البلاد العربیة، وذكر الأقالیم عند ذكره للبخور واللبان والتمر وغیرھا. ومن الأوروبیین السابقین الجغرافي الیوناني سترابو، الذي خصَّ بلاد العرب بفصل كامل ذكر فیه أسماء القبائل العربیة في عھده، ومدنهم وأحوالهم الاجتماعية والتجاریة ودوَّن تاریخ الحملة العسكریة التي شارك فیھا بقیادة صدیقه أولیوس غالوس “aelius gallus”، وقد ھزموا فیھا. ھؤلاء وغیرھم من الأوروبیین كانت لھم دوافعھم المختلفة للاهتمام ببلاد العرب؛ فدوَّنوھا في كتبھم قبل الإسلام. والفتح الإسلامي الكبیر الذي عمَّ الدنیا في مائة سنة؛ فقضى على الدَّوْلَتَیْنِ العُظْمَیَیْنِ؛ روما وفارس آنذاك، وبلغت الجیوش الإسلامية بلاد الصین، ممَّا جعل العالم في حیرة من أمرھم، وحثَّھم على البحث عن مھد الإسلام «مكَّة المكرَّمة» أرض نبي الله محمد علیه الصلاة والسلام.
لا نعلمُ كثیراً عن زیارات أوروبیة للدیار المقدَّسة قبل القرن الخامس عشر المیلادي، اللھمَّ إلا ما یُروى: أنَّ الولید بن عبدالملك الخلیفة الأُموي، استخدم بنَّائین من الرومان لتوسعة الحرم النبوي الشریف سنة 88 ھـ، ولعلَّ أحدَهم، إذا صحَّ الخبرُ، كتب عن رحلته إلى الحجاز أو رواھا لأحد المؤرخين.
فنسنت لبلانك بحّار فرنسي ادَّعى أنه زار الدیار المقدَّسة سنة 1568م لكن قصصه مزیَّفة
تمیَّز القرن الخامس عشر المیلادي بكثرة المستكشفین الأوروبیین، وھذه قائمة بأھمِّ الرَّحالة الأوائل الذین نحتاج إلى قراءة رحلاتھم ودراستھا، وأخذ الحقائق منھا وردِّ أكاذیبھا:
– جون كابوت: ادَّعى وصوله إلى مكة عام 1480م، وذلك قبل 12 سنة من سقوط الأندلس ولم نجد لذلك من مصدِّق.
-لود فیكو دي فارثیما Ludivico di Varthema: إیطالي مغامر سجَّل لنا رحلته عام 1503م، وقد ادَّعى أنه من المماليك؛ فدخل في جماعتهم وعُرِفَ بـ«یونس المصري»، وكان منصفاً إلى حدٍّ ما، حيث صحَّح للغرب مفاھیمَ خاطئةً، ووصف الحرمَ وصفاً جمیلاً، ونشر رحلته في میلانو عام 1511م، وقد ترجمها الإنجلیزي ریتشارد إیرن في عام 1555م، ولكن رحلته لا تخلو من عنصریة، وذلك لبعض الخرافات.
– فنسنت لبلانك Vincent Leblanc: بحّار فرنسي، ادَّعى أنه زار الدیار المقدَّسة سنة 1568م، ولكن قصصه مزیَّفة لا أصلَ لھا.
-جوزیف بیتس: رحَّالة إنجليزي أُسِرَ قرب الحدود الجزائرية وبِیعَ عبداً؛ فقدم إلى مكَّة مع سیِّده الجزائري الذي اشتراه أواخر القرن السابع عشر، ثمَّ تمكَّن من الخلاص بعد أن أعتقه سیده في رحلة العودة؛ فعاد إلى بلاده ونشر رحلته سنة 1704م، وقد صحَّح “بیتس” كثیراً من المفاھیم الغربیة الخاطئة عن بلاد الحرمین، كما فعل “فارثیما”، ولكن كتابه لا یخلو من أخطاء ومبالغات.
من بعد ھذه التواريخ، كثرت الرحلات الغربیة إلى الحرمین الشریفین، وبعضها كان یكتفي بالوصول إلى جدة؛ لأنه یُسْمَح لغیر المسلمین بدخولھا، كما فعل “نیبور”، فوصف مكَّة ورسمها رسماً دقيقاً، وھو لم یدخلھا، ونشرھا في رحلته المأساوية عام 1772م.
«مدارات ونقوش»العدد 6