4,360 عدد المشاهدات
الكاتب:محمد بابا
الرسائل مادة توثيقية ومرجع مهمٌّ يستأنس به المؤرخون، ويستدلون به لنقل صورة تاريخية حية، وتكون الرسائل أكثر قوة وأثراً إذا كانت بين شخصيات محورية في زمنها؛ لأنها تعكس الواقع والأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العامة، في «مدارات ونقوش»، نقرأ اليوم ومضات من كتاب «رسائل من عصر زايد بن خليفة»، الذي يقدّم قبسات تاريخية مهمة.
صدر هذا الكتاب عن المركز الوطني للوثائق والبحوث في أبوظبي، التابع لوزارة شؤون الرئاسة سنة 2009، وهو من إعداد وتحقيق سعيد محمد بن كراز المهيري، وتتعلق هذه الرسائل ببواكير التاريخ الحديث للإمارات، حيث ترتبط بشخصية ذات أثر في المنطقة، ألا وهو الشيخ زايد بن خليفة آل نهيان، حاكم إمارة أبوظبي في الفترة من 1855 وحتى 1909م، وقد تبادل هذه الرسائل مع شيوخ وزعماء في المنطقة، وكذلك مع الأعيان والوجهاء، إضافة إلى مراسلات مع وكلائه.
واتسمت هذه الرسائل في مجملها بالبساطة والعفوية، كما كتبت بخطوط منتظمة وجميلة، وقد أشار الأستاذ بلال البدور في بحث سابق نشرته «مدارات ونقوش» في عددها الثامن، إلى تولي مجموعة من الخطاطين الكتابة في ديوان زايد الأول؛ منهم سالم بن عبدالله الكراني.
وفي مقدمته للكتاب ذكر مُعِدُّ الدراسة أنَّ هذا البحث التاريخي يعدُّ مادة اجتماعية قيمة، فضلاً عن قيمته التوثيقية، حيث تقدّم هذه الرسائل صورة لحياة الناس العاديين قبل نحو مئة عام، في معاملاتهم اليومية من تجارة وزراعة وعمران، وتعطي لمحة عن حياة الناس فيما يتعلّق بالأمور الشخصية.
لمحة عن زايد الأول
الرجل الذي تدور في عصره هذه الرسائل هو الشيخ زايد بن خليفة بن شخبوط بن ذياب آل نهيان الفلاحي الملقّب بــ«زايد الكبير» (1836 – 1909م)، وقد تولى مقاليد الحكم في إمارة أبوظبي في الفترة من 1855 إلى 1909م، وقد عُرِفَ بالشجاعة والرأي وحسن التصرُّف، وقد حالفه الحظ والتوفيق في عقد الصداقات مع شيوخ القبائل والتوفيق بينهم، وكان له دورٌ كبير في مجريات الأمور في المنطقة، واكتسب قدراً كبيراً من الهيبة والاحترام بين قبائل البدو.
كانت فترة حكمه طويلة، ما يدلُّ على الاستقرار والأمن في الإمارة التي كان اقتصادها يعتمد على تجارة اللؤلؤ واستخراج المغر الأحمر، ما ساعد على انتعاش الاقتصاد، وذلك من خلال إقدام بعض الشركات الأجنبية على استخراجه مقابل دفع مبلغ من المال للحاكم.
ومحور هذه الرسائل في مجموعها يدور حول قضايا اجتماعية وأخرى مرتبطة بشؤون إدارة الحكم، وقد كان جزء كبير منها موجَّه إلى الشيخ أحمد بن محمد بن هلال الظاهري، الذي يبدو من خلال الرسائل أنه كان محل ثقة كبيرة عند الشيخ زايد الأول، وأولاه أمور القضاء في المنطقة الشرقية، ونائباً للحاكم فيها، مع حكمه لمنطقة الجيمي، وكان زايد الأول يرجع له في كل كبيرة وصغيرة، كما نسج علاقات قوية متينة بين زايد بن خليفة وآل بوسعيد في عمان.
رسائل تاريخية
وتزيح هذه الرسائل الستار عن صور من الحياة الاجتماعية لأهل الإمارات في بداية القرن العشرين، وتتميّز بالبساطة والمباشرة، وقد توزّعت في الكتاب على مجموعة فصول، افتتحها برسائل زايد الأول إلى ابنه خليفة بن زايد، ثمَّ أتبعها برسائله إلى أحمد بن محمد بن هلال، وكذلك رسائل الأعيان ووجهاء القبائل، وخصَّص فصلاً آخر لرسائل من آل مكتوم إلى أحمد بن هلال وشيوخ وأعيان القبائل، ورسائل أخرى متعددة بين الأعيان في تلك الفترة التاريخية.
ففي رسالة مؤرخة بشهر جمادى الآخرة سنة 1319 هجرية، كتب زايد بن خليفة إلى نجله خليفة بن زايد، «من زايد بن خليفة.. إلى جناب الأجل المكرم الأحشم الوفي الولد العزيز الشيخ خليفة بن زايد المحترم، سلمه الله وأبقاه ورعاه، إن شاء الله تعالى، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، والدك يحمد الله بخير، أخبارنا طيبة والأمور والأحوال من فضل الله جميلة»، وبعد الثناء والتقديم الذي تضمّن الاطمئنان على الأحوال الخاصة والعامة تخلص الرسالة إلى مضمون التوجيه؛ «لا يخفاك في يوم اثني عشر 12 من الشهر الحالّ وصلنا راجعين الوطن بحال الصحة والسلامة، ثم الواصلة إليكم ثلاثين ريال أخرى للخيل الذي في الجاهلي»، والريال في الرسالة هو الريال المنسوب في ذلك الوقت إلى ملكة النمسا ماري تيريزا، وكان يستعمل في شبه الجزيرة العربية، أمّا الجاهلي فهو اسم مكان وقلعة الجاهلي في العين، التي بناها زايد الأول سنة 1898، وقد كتب على بابها الأبيات الشعرية التالية:
فتح باب الخير في باب العلا
حل فيه السعدُ بالعليا المنيفة
فتهاني العز قالت أرخوا
دار جدٍ شادَ زايد بن خليفة
وفي رسالة أخرى، مؤرخة بـ23 جمادى الآخرة سنة 1322 هـ، تشير إلى متابعة مجريات المنطقة، وهي موجهة إلى نجله خليفة، كتب زايد الأول: «كتابك الشريف الذي بصحبة الولد الشيخ محمد بن ذياب، وما ذكرته صار عند والدك معلوم، وهذا الظن بك والمأمول فيك، وحالك لم يزل جميل، إن شاء الله، ولا يخفى على جنابك الشريف حال تاريخ الكتاب وصلتنا تعاريف من أخيك الولد الشيخ حمدان بن زايد وأخبار الغرب من طرف بن رشيد وبن اسعود، فهو واصلك في طي الكتاب..».
واستحوذ جزء كبير من الرسائل على المكاتبات الموجّهة إلى أحمد بن محمد بن هلال، حيث كتب له زايد بن خليفة العديد من الرسائل، ومن رسائل شيوخ المنطقة أيضاً أفرد الكتاب فصلاً لرسائل آل مكتوم، وأغلبها موجّه إلى أحمد بن محمد بن هلال وأعيان القبائل.
ففي رسالة من زايد بن خليفة إلى أحمد بن محمد بن هلال بتاريخ 17 من شهر رجب سنة 1322هـ جاء فيها، “إلى جناب الأجل المكرم الأحشم الأمجد الوفي الولد الشيخ أحمد بن محمد بن هلال المحترم، سلمه الله تعالى وأبقاه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وألطافه وهباته، محبك يحمد إليك الله بخير لا زلت محروس، بحال الخير ولا زاد وحدث إلا ما به مسرة الجميع، كتابك الشريف وصل وبما ذكرت صار عند محبك معلوم، وهذا الظن بك والمأمول فيك وحالك لم يزل جميل..”، وفي رسالة من مكتوم بن حشر إلى أحمد بن محمد بن هلال، جاء فيها «إلى جناب الأكرم الأحشم الأشيم الأخ الشيخ أحمد بن محمد بن هلال المحترم، سلمه الله تعالى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ومرضاته وأزكى وأشرف تحياته، محبك من كرم الله بخير وعافية، لا زلت كذلك أخبار طرفنا ساكنة، ولا زاد ولا حدث ما يجب رفعه إليك، سوى الخير وعدم ضده، ونحن وصلنا يوم 20 من الشهر الحالي، وصلنا ولا رأينا من فضل الله مكروه». وفي رسالة مؤرخة بـ1 من ذي الحجة 1339 هـ كتب سعيد بن مكتوم إلى أحمد بن هلال «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وألطافه وهباته، ومغفرته ومرضاته، وأزكى وأشرف تحياته، وغير ذلك نعرف جوابك الشريف، هذا الواصل إليك عبدالله رجال الشيخ عبدالله بن جلوي الرجاء الحشمة والكرامة، كما أن جنابك من أهل ذلك، ودم سالماً».
وتستأثر الرسائل الموجهة والمرسلة من أحمد بن محمد بن هلال الظاهري بجانب كبير من الكتاب، ما يدل على الدور الكبير الذي كان يضطلع به هذا الرجل في عصر زايد الأول، وعلاقاته المترابطة مع شيوخ وأعيان المنطقة، ولا شكَّ أنَّ هذه الرسائل تعطي صوراً مقربة لتلك الفترة التاريخية من حياة أهل الإمارات من خلال ما ورد فيها من أخبار وأحداث وآليات تداول الشيوخ والوجهاء بخصوصها، ونظرتهم إزاءها.