1,159 عدد المشاهدات
الكاتب: علي عبيد الهاملي
كان زايد، عليه رحمة الله، يهتم بالإعلام منذ بدايات حكمه لإمارة أبوظبي، وكان الإعلام أيضاً يهتم به ويسعى إليه، وكانت انطباعات الصحافيين الذين أجروا مقابلات وحوارات معه في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي تنمُّ عن عظمة هذا القائد الفذّ، وتُعبِّر عن إعجابهم به. لنستمع مثلاً إلى شهادة الصحافي الهندي كرانجيا، صاحب ومؤسِّس مجلة “بليتز” الهندية، الذي أجرى مع المغفور له الشيخ زايد، عليه رحمة الله، مقابلة نشرها في شهر يونيو عام 1970. يقول كرانجيا عن الشيخ زايد، طيب الله ثراه: “ليس هناك من بين كلِّ الشخصيات الباهرة التي ظهرت في عهد النهضة العظيم، الذي تشهده جميع دول الخليج بعد اكتشاف البترول، شخصيَّةٌ تُقَارَنُ بشخصية الشيخ زايد بن سلطان، حاكم أبوظبي، من حيث توافر عناصر القيادة الملهمة في روحه، ومن حيث نظرياته السياسية والاقتصادية التي يريدُ أن يطبِّقَها في المنطقة، ومن حيث إنجازاته الكثيرة التي تمَّت في وقت قصير للغاية. إنَّ حاكمَ أبوظبي يُمثِّلُ نهضةَ هذه المنطقة بشكل أخَّاذ، لدرجة أنني لم أستطِعْ مقاومة الكلام معه طوال ليلة بأكملها حتى ساعات الفجر، وكان ذلك بعد مأدبة العشاء التي أقامها في بيته المتواضع، بمناسبة زيارتي للإمارة”.
ومثلما سعى كرانجيا لمقابلة الشيخ زايد، عليه رحمة الله، في بدايات حكمه لإمارة أبوظبي، سعى صحافيون وأجهزة إعلام عربية وأجنبية كثيرة لمقابلته أيضاً، وتنوَّعت لقاءاتهم معه بين صحفية وإذاعية وتلفزيونية، فقد كان التغيير الذي حدث في أبوظبي بمجيء الشيخ زايد، عليه رحمة الله، وتوليه سدة الحكم لافتاً ومثيراً لفضول الصحافة وأجهزة الإعلام التي كانت تراقب أحوال المنطقة عن بعد، ولم يكن ثمة إعلام في الإمارات في تلك المرحلة يعبِّر عمَّا يحدث وينقله إلى الخارج، اللهمَّ إلا إذاعة وحيدة أنشأها مكتب التطوير التابع لمجلس حكام الإمارات المتصالحة، ومجلة وحيدة كانت تصدر في دبي عن المكتبة العامة لبلدية دبي، سنأتي على ذكرهما عندما نتحدَّث عن نشأة الإعلام الإماراتي وتأسيسه على يد الشيخ زايد، عليه رحمة الله. لذلك سنجد مقابلات صحفية وإذاعية وتلفزيونية كثيرة للشيخ زايد، طيَّب الله ثراه، نشرتها صحف ومجلات عربية وأجنبية شكَّل لها مجيء زايد، عليه رحمة الله، في تلك المرحلة بزوغ فجر جديد في المنطقة، فجاءت تبحث عن فكر هذا الرجل البدوي ونظرته المستقبلية، والخطط التي كان يحملها لشعبه وإمارته، فاكتشفت أنه لا يحمل خططاً لإمارته فقط، وإنما لمجموعة الإمارات التي كان يُطْلَقُ عليها آنذاك إمارات السَّاحل المهادن، وتسمِّيها بعض المصادر الإمارات المتصالحة. بل إنه كان يحمل خططاً للإقليم الذي تقع فيه تلك الإمارات، وللوطن العربي كله، بفكره الوحدوي العروبي الأصيل، وطموحاته التي لا تحدُّها حدود، رغم محدودية الإمكانات في تلك المرحلة، لكن زايد، عليه رحمة الله، لا تحدُّ طموحاته حدود، ولم تكن محدودية الإمكانات تحول دون تحقيقه لحلمه، منذ أن كان في مدينة العين، وحتى أصبح رئيساً لدولة الإمارات العربية المتحدة، التي كانت حلمه الأول وليس الأخير، فقد سعى بعدها إلى تأسيس مجلس التعاون الخليجي ونجح في ذلك، ليتم إعلان قيام المجلس من العاصمة أبوظبي بعد عشر سنوات من تأسيس دولة الاتحاد، ومضى بعد ذلك يسعى إلى توحيد الأمة العربية وحل خلافات دولها، فنجح مرات، وحالت ظروف كثيرة دون تحقيق مساعيه مرات أخرى، لكنه لم ييأس أبداً، حتى غادر دنيانا وهو يحمل معه هموم أمته.
إنَّ المتأمل للقضايا التي تطرَّق إليها، عليه رحمة الله، في تلك الأحاديث والمقابلات المبكرة، يجدها كثيرة ومتعددة؛ يأتي على رأسها المساعي التي كان يبذلها لإقامة دولة الاتحاد، وحرصه وعمله على بناء الوطن، ونظرته إلى الثروة وكيفية استغلالها، وفكرة الوحدة العربية التي شكَّلت هاجساً من هواجسه الدائمة. كما ظهرت في تلك الأحاديث فلسفته في الحكم والحياة. فالسلطة عنده ليست غاية، وإنما هي وسيلة لخدمة الناس، وتحقيق الرفاهية للشعب.
ومصالح الوطن عنده أمانة يحملها على عاتقه، عليه أن يحافظ عليها، ويؤديها دون نقص أو خسران. يؤمن بأنَّ الحاكم، أي حاكم، ما وُجِدَ إلا ليحكم شعبه، ويوفِّر له سبل الرفاهية والتقدم، ومن أجل هذا الهدف يحب أن يعيش بين شعبه ليتحسَّس رغباته، ويعرف مشكلاته، ولن يتحقَّق له ذلك إذا عزل نفسه. يؤمن بالحرية، ويعدُّها هدفاً أساسياً يسعى إليه الإنسان، ولا يستطيع أن يعيش بدونه. كما يؤمن بتوزيع المسؤوليات وعدم احتكار السلطة، ولكن مع حسن اختيار المعاونين، ومتابعة عملهم للتأكد من أنهم يقومون بأداء واجبهم على الوجه الأفضل. همومه القومية في ضخامة وثقل همومه الوطنية. كان يرى أنَّ الله خلق الناس ليعيشوا مع بعضهم، بغض النظر عن مركزهم في الحياة. كان حالماً، لكن الفرق بينه وبين بقية الحالمين أنه استطاع أن يحوِّل الأحلامَ إلى حقائقَ على الأرض. لديه مقدرة عجيبة على كسب الأصدقاء ومضاعفة عددهم، وتحويل الخصوم إلى أصدقاء.
يمتاز بالقدرة الفائقة على المبادرة لتغيير مجرى التاريخ، وعدم انتظار ما قد تأتي به الأيام، ثمَّ البحث عن أسلوب آخر للتعامل معه. كان يمزج بين المثل العليا والإنجازات العملية، كما كان يمتلك وضوح رؤية أدَّت إلى اتساق نظرته ومعالجته كلَّ الأمور والقضايا والمشكلات بحكمة وبصيرة ثاقبة. ليست لديه حساسية تمنعه من الحديث في أيِّ موضوع يعرف أبعاده. لا يحبُّ المناورات السياسية، فالسياسة عنده تطبيق عملي للمبدأ الذي ينادي به، وأيُّ انفصال بين الأقوال والأفعال ليس سوى خداع وكذب ونفاق. تلقائي وبسيط، تجلَّت تلقائيته في جميع اللقاءات التي أجريت معه.
هكذا بدا زايد، عليه رحمة الله، في عيون الإعلاميين ومن خلال عيونهم، فلله درّه من قائد عظيم لا يتكرَّر.