4,793 عدد المشاهدات
مدارات ونقوش (خاص)
حافظت الخيل على مكانتها عبر العصور، ولم تزل تزداد تألقاً من جيل إلى جيل. حتى إنَّ سباقاتها العالمية تحجز لنفسها حيز الصدارة عند نبلاء الأرض وأغنيائهم. وإنَّ الفرس الأصيل الذي يعتلي منصات التتويج لهو من أثمن وأغلى الجياد التي يتبارى الناس في الزيادة بأثمانها والسعي للاستئثار بها مهما بلغت قيمتها وارتفعت.
ولعلَّ موروثات السباقات من الرياضات المتجذرة في التاريخ، وكان لها حيز الاهتمام عند العرب، وحتى بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام، بل نستطيع القول إنَّ الإسلام دينٌ أَولى الخيل مكانة دينية ودنيوية بعد أن كانت تقتصر على القيمة المادية فقط، فقد أبرز القرآن الكريم أولاً ما للخيل من فضل حتى كانت سورة كاملة باسمها، سورة العاديات، ومن هذا المنطلق نجد أنها شغلت حيزاً كبيراً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في فضلها وقيمتها.
ونحن إذ نتحدث في عددنا هذا عن سباقات الخيل، فإننا نستعرض ما يختصُّ بسباقات الخيل في الجاهلية والإسلام، وما ورد في تلك الرياضات الأصيلة في تاريخ الجواد العربي.
في الجاهلية
عرف العرب الخيل منذ الجاهلية واهتموا بها اهتماماً شديداً، وعرفوا سباقاتها. ولعلَّ واحدة من أشهر حروبهم، داحس والغبراء، كان سببها المباشر سباقاً بين فرسين. وكانوا يتراهنون على الخيل في سباقات تقام لأجل هذا الرهان، إلى أن جاء الإسلام فأبطل الرِّهان وأبقى على الاهتمام بالخيل. ومن الأمثال العربية التي تطلق على الأمرين المقترنين، بحيث يصعب التفريق بينهما في مجال المنافسة، أنهما فرسا رهان. وقد أبطل الإسلام الرِّهان على الخيل المتسابقة، إلا أنه كرَّمها أيما تكريم إذ أقسم بها المولى عز وجل ﴿والعاديات ضبحاً﴾ وقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: “الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة”. رواه البخاري ومسلم. وشجَّع الإسلام على الاهتمام بها، فهي مراكب الأبطال والفرسان، ونواصي الفخر والانتصار.
سباقات الخيل في الإسلام
روى أبو داوود أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل وفضَّل القُرَّحَ في الغاية. والقرح: جمع قارح، وهو ما دخل في السنة الخامسة. يقال له في السنة الأولى: حولي، ثمَّ في الثانية: جذع، ثمَّ في الثالثة: ثني، ثمَّ في الرابعة: رباع. ويقال: أجذع المهر وأثنى وأربع، وقرَّح. والمقصود أنَّ القرح أقوى من غيرها من الجياد، فيجعل المدى الذي يتم السباق به على ظهرها أبعد من غيرها لجلَدها وقوتها.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا سبَق إلا في خف أو حافر أو نصل»، جاء في “حياة الحيوان الكبرى”: السَّبَق بفتح الباء: ما يجعل للسابق على سبقه من جعل، وجمعه أسباق، وأما السَّبْق بإسكان الباء، فهو مصدر سبقت الرجل أسبقه، والرواية الصحيحة في هذا الحديث “لا سبَق” بفتح الباء، وأراد به أنَّ الجعل والعطاء لا يستحقُّ إلا في سباق الخيل والإبل والنصال؛ لأنَّ هذه الأمور عدَّة في قتال العدو، وفي بذل الجعل عليها ترغيب في الجهاد.
وفي الصحيحين، من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: أجرى النبي صلى الله عليه وسلم ما ضُمِّر من الخيل من الحَفْياء إلى ثَنيِّة الوداع، وأجرى ما لم يضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق. قال ابن عمر: وكنت فيمن أجرى.
والتضمير: تقليل علفها مدة، وإدخالها بيتاً كنيناً، وتجليلها فيها لتعرق ويجف عرقها، فيصلب لحمها، وتجف وتقوى على الجري.
ومما ورد من خبرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأمر الخيل أنه كان يأمر بإضمار خيله بالحشيش اليابس شيئاً بعد شيء، وطياً بعد طي، ويقول: «ارووها من الماء واسقوها غدوة وعشياً، وألزموها الجلال، فإنها تلقي الماء عرقاً تحت الجلال، فتصفو ألوانها، وتتسع جلودها».
وأوّل مسابقة كانت في الإسلام سنة ستّ من الهجرة، سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل، فسبق فرس لأبى بكر الصّدّيق، رضى الله عنه، فأخذ السَّبق.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي الجوائز على السباقات، ويكرم الفائزين بها. ذكر ابن بنين: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل على حلل أتته من اليمن، فأعطى السابق ثلاث حلل، والمصلِّي حلتين، والثالث حلة، والرابع ديناراً، والخامس درهماً، والسادس قصبة. وقال: “بارك الله فيك، وفي كلكم، وفي السابق والفسكل”.
وعن سهل بن سعد، رضي الله عنه، قال: أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل، فسبقتُ على فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، الظرب، فكساني برداً يمانياً.
كما أنَّ سباقات الخيل استمرَّت في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكتب به إلى الأجناد.
فكلُّ هذه الأخبار والآثار وغيرها ناطق بأنَّ سباقات الخيل وإجراء جوائز عليها كان منذ عصر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين. وقد كان في الجاهلية وأقرَّه الإسلام، قال البلقيني: “وليس من تعذيب البهائم، بل من باب تدريبها للجري، وإعدادها لحاجة الطلب والكر”.
السوابق من الخيل
من جملة اهتمام العرب بشأن الخيل أنهم أطلقوا مسميات معلومة تختصُّ بكل واحد من الجياد المتسابقة بحسب مركزها.
ففي “قطر السيل في أمر الخيل” أنها عند أبي عبيدة عشرة: أولها السابق، ثمَّ المصلي، وذلك لأنَّ رأسه عند صلا السابق، وهو ما عن يمين الذنَب وشماله، ثمَّ الثالث، ثمَّ الرابع… كذلك إلى التاسع، والعاشر: السُّكَيت.
قال ابن قتيبة: فما جاء بعد ذلك لا يعتد به. والفِسْكِل: الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل.
ومن أشهر الأبيات التي استعملت أسماء السوابق من الخيل قول بشامة بن حزن النهشلي، في قصيدته التي تعدُّ من روائع شعر الحماسة، وهذا مطلعها:
إنّا محيّوكِ يا سلمى فحيّينا
وإنْ سقيتِ كرامَ الناسِ فاسقينا
وفيها يقول:
إِن تُبتَدَر غايَةٌ يَوماً لِمَكرُمَةٍ
تَلقَ السَوابِقَ مِنّا وَالمُصَلّينا
وليـس يهـلك منّـا سـيِّدٌ أبــَـــداً
إلّا افتَلَينـــــا غلامـاً سـيِّداً فِينا
إنّا لنُرْخِصُ يومَ الرَّوعِ أنفُسَنا
ولو نُســامُ بها فـي الأمـنِ أُغلِينـا
إنّي لمنْ معشرٍ أفنى أوائلَهــــمْ
قَـــــولُ الكماةِ ألا أينَ المحامونا
وقال ابن الأنباري في الزاهر:
الأول: المجلي
الثاني: المصلي
الثالث: المسلي
الرابع: التالي
الخامس: المرتاح
السادس: العاطف
السابع: الحظيّ
الثامن: المؤمَّل
التاسع: اللطيم
العاشر: السكيت
قال الشاعر:
جاء المجلّي والمصلّي بعدَه
ثم المسلّي بعده والتّالي
نسَقاً وقاد حظيها مرتاحها
من قبل عاطفِها بلا إشكالِ
وهكذا نجد أنَّ سباقات الخيل كانت من أبرز الرياضات التي عني بها الإسلام عناية فائقة، وأجرى على روّادها الأعطيات، وبلغت عناية العرب بسباقات الخيل غاية كبيرة، لا أدل عليها من أنَّ الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كتب إلى أمراء الأمصار بالوصية والعناية بها، فهي آلة الحرب، وصهوة المعالي، والمجد الذي يفاخر به العرب الأمم.