7,789 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
في سنة 1932م ولد سيف بن غباش في حيِّ المعيرض التي سكنها جده بعد خروجه من إمارة أبوظبي، ويعدُّ هذا الحي من أحياء إمارة رأس الخيمة القديمة حيث ذكره شاعر الإمارات الحكيم الماجدي ابن ظاهر في شعره مما يدلُّ على قدم تاريخه.
كان منزل والده سعيد بن غباش بن مصبح طواش اللؤلؤ من المنازل الكبيرة فنشأ في كنف والده الذي عرف بالأخلاق النبيلة والكرم فأخذ الصبي من صفات والده الذي يحب العلم وأهله ويبالغ في إكرامهم وكان أمله أن يرى أبناءه من العلماء وقد كان له ذلك فقد صار ابنه الشيخ محمد من العلماء القضاة، وأول خريج أزهري من الإمارات، وإن سألتم عن سر تعلق هؤلاء الإخوة بالعلم والصبر على مشاقه فلنرجع ونقرأ سيرة حياتهم وكيف كان أبوهم يحثهم عليه ويزين العلم في قلوبهم.
هكذا يكون الآباء والأمهات أمام أبنائهم الصغار لأنه لن تبلغ الأجيال الناشئة العلم إلا بصبر الوالدين وتحبيبه في قلوبهم الصغيرة التي لا تدرك الأمور على حقيقتها، ونحن في دولتنا الحبيبة بحاجة إلى علماء كبار ينافسون علماء الأرض في مخترعاتهم ومكتشفاتهم كما فعلنا أجدادنا إبان سطوع نجم علماء الإسلام وكما فعلت الأمم المتحضرة التي ورثت علومنا وطورتها.
مصاعب وهمة
في صيف سنة 1941م توفي سعيد بن غباش وولده سيف لا يزال في العاشرة من عمره ثم لحقته والدة سيف فاطمة بنت محمد العويد المهيري بعد ثلاثة أشهر فأصبح يتيم الأب والأم فقامت بحضانته جدته من أمه الفاضلة آمنة بنت حسين فأحسنت تربيته، وبعد سنة جاء ابن عمه عبيد بن صقر بن غباش وعاد به إلى دبي ليبدأ تحصيله العلمي فقام برعايته خير قيام، وكان عبيد يعمل فترة مدرساً في مدرسة الفلاح يعلم مبادئ اللغة العربية والحساب ثم انتقل إلى بيت ابن عمته عبيد بن غانم.
يقول الأديب محمد صالح القرق وهو زميله في المدرسة: «درست معه في مدرسة الفلاح وكان يدرسنا مدير المدرسة الشيخ محمد نور والشيخ أحمد الشيباني والشيخ عبدالله نور الدين والشيخ سالم القريني وكان يشترك في التدريس سالم بن كنيد والشيخ أحمد بن ظبوي والشيخ عبدالرحمن الريس رحمهم الله تعالى .فتعلمنا القراءة ثم قراءة القرآن وحفظه، ثم تعلمنا الحساب ثم تعلمنا النحو وتجويد القرآن ثم تعلمنا الإملاء وتجويد الخط وطريقة كتابة الرسائل حسب الأسلوب المتبع آنذاك..وكانت مدرسة الفلاح تتكون من ثمان خيم، نصفها للابتدائي حتى إذا انتهى التعليم فيها انتقل الطلبة إلى الخيم الأخرى التي فيها يتم التعمق في المواد الدراسية وكانت كل خيمة تضم قرابة أربعين طالباً وفي المرحلة العليا يتم تعليم الفقه كلٌّ حسب مذهبه فهناك من يدرس المذهب المالكي وآخرون يدرسون المذهب الشافعي».
ثم يتابع الأستاذ القرق فيقول عن زميله سيف بن غباش: «كان سيف بن غباش من أكثر الناس انتباهاً للعلم يحرص عليه ويكثر من الحفظ كثير الاجتهاد في تحصيله».
رحلة الدراسة انقضت سنوات الدراسة وكان لا بدّ له أن يبحث عن كان آخر لتلقي العلم فلم يكن في الإمارات كليات ولا جامعات ولا حتى مدارس تدرس حسب نظام التعليم العالمي المعروف آنذاك، وإنما كان التعليم يقتصر على التعليم الديني وبعض من علم الحساب وليس كما نراه اليوم والحمدلله من مدارس راقية وجامعات عالمية يقصدها الطلبة من كل مكان.
وصل سيف إلى البحرين سنة 1949 برفقة خاله فذهب مباشرة يبحث عن ضالته فيها فلم يجد إلا المكتبة العامة ليجدها مفتوحة أمامها فدخلها وقت العصر والتقى أمينها الأستاذ محمد حسن صنقور رحمه الله فطلب منه أن يساعده للالتحاق بمدرسة نظامية فكان له ما تمنى حيث أخذه الأستاذ محمد إلى دائرة المعارف
وقد وجهه الأستاذ أحمد العمران للذهاب إلى المدرسة الشرقية الابتدائية في المنامة ولكنه كاد يفشل في هذه المحاولة بسبب عمره وتأخره في الالتحاق، ولكن الله هيأ له الأستاذ رضى الموسوي الذي أصر على إدخاله المدرسة فقُبل في المرحلة الرابعة بواسطة الموسوي ومدير المدرسة الأستاذ حسن الجشي بعد أن كادت الأقدار أن تعيده إلى بلده خائباً
يقول الأستاذ الجشي: «بالرغم من أن سيف التحق بالمدرسة قبل الامتحان النهائي إلا أنه نجح بتفوق بل كان ترتيبه الأول على جميع طلبة البحرين في تلك السنة».
وفي السنة التي تلتها وبعد أن أثبت تفوقه العلمي التحق سيف بالمدرسة الثانوية سنة 1950 وكانت تقع في مبنى في شارع الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة وفي طابقه الأول تقع المدرسة الشرقية الابتدائية، وهناك أيضا سكن داخلي للطلبة استطاع سيف أن يحصل على مكان فيه فكان هذا الاستقرار بمثابة نقلة نوعية له في حياته ليتمكن من متابعة تحصيله العلمي.
ويحدثنا سيف عن هذه المرحلة الهامة من خلال رسالة بعثها إلى صديقه الأديب محمد القرق فيقول: «لم يكن إغفالي الرد على رسائلك نسياناً لك فحاشا أن أنساك ومثلك لا ينسى، وإنما كنت مشغولاً بدروسي في أول السنة فقد دخلتُ المدرسة وأنا شبه أميٍّ ليس في المعلومات العامة وإنما في الحساب والإنجليزي فقد أرهقني الحساب إرهاقاً شديداً ولكنه سهل الآن والحمدلله، ولا بد لي أيها الأخ في أن أشرح لك سيري في دروسي في أول العام إلى الآن، لقد سقطت في الشهر الأول في مادتي الحساب والإنجليزي ولكنني بذلت جهودا أكبر فلم تأت الفترة الأولى حتى كنت الثاني في صفي وإني أرجو أن أكون الأول في الفترة الثانية التي لم يبق عليها إلا بعض أيام كما أن امتحان الشهادة الابتدائية وهو الامتحان الرسمي سيبدأ في منتصف شهر مايو وأرجو من الله النجاح ومنك الدعاء».
وقد وفى سيف بما وعد به نفسه وصديقه القرق من تحويل الرسوب إلى نجاح، ونال المرتبة الأولى على زملائه.
فاجتهاد سيف وبلوغه ما أراده وتمناه ونجاحه حتى صار الأول على مدرسته، يذكر بالقول إن لكل مجتهد نصيب، فمن رسوبه إلى بلوغه قمة النجاح في التعليم دليل على صدقه وصبره.
قارئ نهم
ولم يكن سيف بن غباش يهتم فقط بقراءة المقررات الدراسية بل واظب على القراءة في المكتبة العامة التي تقع مقابل سكنه ومدرسته، يقول عنه زميله الأستاذ عبدالعزيز إسماعيل: كان سيف يلتهم الكتب التهاما فلا يكف عن القراءة إلا عندما يخلد للنوم بل نجده يستمر أحياناً في القراءة بعد نوم أصحابه.
وعنه أيضا يقول مدير المكتبة العامة الأستاذ محمد: كان يحرص على مصاحبة من هم أكثر منه علماً ليستفيد من علمهم، يحب النقاش في أمور السياسة والثقافة فكوّن له صداقات كثيرة، فهو محبوب لدي الجميع معروف بالابتسامة الدائمة ويشارك في معظم الأنشطة.
ومن الأمور الجميلة مشاركته في مجلة المدرسة التي تصدرها باسم «المعرفة» فقد كتب في عددها لشهر إبريل من سنة 1953م مقالاً بعنوان «نريد أدباً حياً» يقول فيه: «إن الأدب الحي في عصور الحياة جميعها هو ما يرقى بالنفس البشرية إلى عوالم من الفضيلة والطهر ويرفعها إلى الأعالي بعيداً عن غوغاء المادية البغيضة حيث فحيح أفاعي اللذة المسمومة، إنّ الأدب الذي نريده هو ذلك النوع الزاخر بمعاني الحياة المليء بالقوة المتحرر من قيود التقليد، نريد في الشعر طلاقة وصفاء وسجية وعمقاً وفي النثر البساطة والوضوح وأن يوافق المنطق، أما الرواية والقصة وهما الفن الطارئ على العربية فيجب أن نرى فيهما صورة المجتمع الذي نعيش فيه، ونرى من خلال أشخاصهما الخصائص النفسية ومختلف الصور والأحاسيس التي تختلج في أعماقهم، نريد الأدب مشجعاً وحافزاً يخفف من آلامنا ويملؤنا بالقوة ويشيع فينا الأمل لنخوض معركة الإنسانية المقبلة ونصعد إلى سلم الكمال».
وتدل هذه المقالة الأدبية الطويلة على تعمقه في الأدب العربي المعاصر ومعرفته وكثرة اطلاعه على صغر سنه آنذاك وهو في الثانية والعشرين من عمره، فأين هم طلبتنا اليوم من ذلك الجيل الذي شق طريقه بالجهد والتعب والجوع ليصل إلى أعلى الدرجات العلمية التي أجبرتنا أن نكتب عنهم ونشيد بإنجازاتهم اليوم.مدارس وسجون
وقبل الانتقال إلى تكملة قصة حياته أريد أن أنوّه بدور المرحوم الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حاكم البحرين من سنة 1942 إلى سنة 1961 فقد كان نعم الحاكم العادل الكريم الذي ازدهرت البلاد في عهده وانتشرت المدارس والمستشفيات وأوصل الكهرباء والماء إلى المدن والقرى، واهتم كثيرا بالمشاريع العمرانية والزراعية ونشطت في زمنه الحياة الثقافية فافتتحت الأندية الثقافية والمكتبة العامة التي ذكرتها في الحلقة الماضية، وكان يرأسها عميد المكتبات العامة في البحرين الأستاذ محمد حسن صنقور، رحمه الله، الذي قام بمساعدة سيف بن غباش للدخول إلى المدرسة الابتدائية الشرقية ثم بعد نجاحه انتقل إلى المدرسة الثانوية.
في أثناء دراسته الثانوية تعرف سيف على أستاذ اللغة الانجليزية (فيضي) وتوطدت علاقته به لأنه كان حريصاً على تعلم اللغة الأجنبية وكأنه يشعر بأنّ هذه اللغة سيحتاجها فيما يأتي من أيام حياته وهكذا تفوق على باقي زملائه في اللغة العربية والانجليزية وقد استمر يحصل على المرتبة الأولى في الدراسة الثانوية حتى تخرجه عام 1953م.يقول الدكتور علي حميدان: إنّ السنوات الخمس التي قضاها سيف في البحرين تعتبر نقطة تحول هامة في حياة هذا الرجل الذي وصفه كل من عرفه بالذكاء الخارق والموهبة التي تنتظر البيئة والمناخ الملائمين للتفوق والإبداع.
وعن حياته في البحرين يقول سيف: «حياتي في البحرين حياة هادئة مطمئنة ومرحة ضاحكة فإني أسكن في القسم الداخلي ويشرفه النظافة والنظام كما أنّ المكتبة العامة ملاصقة له وفيها كتب كثيرة عربية وإنجليزية وترد إليها كثير من الجرائد والمجلات، ويقيم القسم الداخلي في كل ليلة أربعاء حفلة سمر يلقي فيها الطلاب المنولوجات والنكت كما نعرض بعض الأفلام السنيمائية ويقوم الطلبة بتمثيل رواية».
بعد أن أنهى سيف دراسته في البحرين التي أكرمته وعلمته كأحد أبنائها أراد أن يكمل دراسته الجامعية فلم يجد إلا العراق ملاذاً قريباً له وذلك لأن ملك العراق الملك غازي بن فيصل أمر بإنشاء قسم للبعثات العربية في وزارة التربية العراقية وكان هذا القسم يستقبل الطلبة العرب، ويسهل التحاقهم بالكليات المختلفة وتوفر لهم السكن والمواصلات والمصروف الشهري أيضاً.
في أواخر صيف 1953 غادر سيف البحرين متجها إلى بغداد فوصل مطارها وهو يحمل رسالة توصية لمن يهمه الأمر من مدير دائرة المعارف البحرينية الأستاذ أحمد العمران والذي ساعده أول وصوله البحرين وقد أعجبني كلامه فيها وأحب أن أقرأ لكم بعضا منها لتعلموا مقادر حب أساتذة سيف له بسبب أخلاقه واجتهاده فيقول: «سيف طالب مجتهد وشاب مثقف ويمتاز بالذكاء والفطنة والخلق الفاضل والمسلك القويم وقد كان بحق في مقدمة زملائه من جميع النواحي الحميدة وفي مختلف مراحل دراسته بمدارسنا».
حصل سيف على منحة تعليمية من قسم البعثات العربية واختار أن يلتحق بكلية الهندسة وتقدم للامتحان فنجح فيه وسكن في السكن الداخلي الخاص بالكلية وانكب على الدراسة لأنها صعبة جداً فهو لم يتعلم المواد العلمية من قبل، ولكن الاجتهاد يذلل الصعوبات فنجح في السنة الأولى والثانية بتفوق كما هي عادته واهتم جداً بالتعرف على الوسط العلمي والثقافي ومن بين الشخصيات التي تعرف عليها الأستاذ وائل زعيتر وهو ابن الكاتب الكبير الفلسطيني أكرم زعيتر.
كان سيف ووائل لا يفترقان إلا نادراً يجمعها حب الثقافة وكثرة القراءة في شتى المعارف وسوف يكون لوائل دور في حياة سيف كما سيأتي من الأحداث.
لم يكن الوضع سهلا في تلك الأيام فقد بدأت الاضطرابات تتشكل تدريجياً في العراق خاصة بعد قيام ثورة عبدالناصر سنة 1952 مما هيأ أرضية خصبة للقوميين والشيوعيين فلم تجد حكومة نوري السعيد في العراق إلا أن تنضم إلى حلف يتكون من إيران وتركيا وباكستان وبريطانيا سنة 1954 فاندلعت المظاهرات في كل المدن العراقية ثم بعد تأميم قناة السويس في سنة 1956 وفي أعقاب العدوان الثلاثي على مصر كبُرت المظاهرات والحركات السياسية المعارضة لنوري السعيد، وكان طلاب الجامعات من أكثر المتحمسين ضد الحكومة فواجهتهم حكومة السعيد بكل قسوة واعتقلت كثيرا من الطلبة وكان من بينهم سيف الذي دخل لتوه في السنة الثالثة ولكنها الأحداث الأليمة التي لا تراعي أحداً فزجّ به في السجن ليعيش أسوأ أيام حياته وحُرم من دراسته التي كان من أحرص الناس عليها.
بقي في السجون العراقية أشهراً ثم اقتيد هو وبعض الطلبة مقيدي الأيدي إلى منطقة صفوان على الحدود العراقية الكويتية في موقف يشيب له رأس الصغير وسيف لم يتجاوز بعد الخامسة والعشرين من عمره.
على الحدود الكويتية تم إطلاق سراحه فدخلها وهو في حالة رثة وهيأة لم يشاهده أحد عليها من قبل فاستقل أول مركب متجه إلى دبي فوصلها ليلا وذهب مباشرة إلى صديق صباه في مدرسة الفلاح الأستاذ محمد القرق الذي يقول عن هذا الأمر:
«سمعت طرقاً على باب منزلي فقمت ففتحت الباب فإذا بشخص في هيأة عجيبة ولم أعرفه فقلت له: لعلك أخطأت العنوان وأغلقت الباب، فسمعت طرق الباب ثانية: ويقول أنا سيف بن غباش، فلما سمعت الاسم فتحت الباب مسرعا وأدخلته وقلت له استرح واطمئن إذ كان مروع القلب من هول ما رأى في العراق وأخبرني بما حصل له حتى إني أشفقت عليه كثيراً».
ويتابع القرق القصة ويقول: «كنت معجبا بالمواسم الثقافية في الكويت وأحرص على حضورها كل سنة فعرضت الأمر على سيف بعد شهر من رجوعه فوافق وسافرنا معا إلى الكويت لحضور هذا الموسم في سنة 1957 وخلال وجوده هناك التقى وائل زعيتر صديقه الحميم الذي يعمل في دائرة الأشغال الكويتية آنذاك».
كان الاتفاق بيننا أن نسافر بعد الكويت إلى القاهرة، ولكن وائل أقنع سيف بن غباش أن يبقى معه ووعده بأنه سيجد له وظيفة مناسبة في الوزارة وهذا ما حصل فقد عُين بوظيفة مساعد مهندس وبراتب يقارب ألفي روبية وهذا راتب كبير في تلك الأيام قد جعله سيف جسراً للوصول إلى هدفه وهو إكمال تعليمه في أوربا.
بقي في الكويت مدة سنتين يسكن في غرفة صغيرة في إحدى أحياء الكويت يستمتع بالعمل صباحاً وبالقراءة وزيارة أصحابه القدامى من البحرين والعراق وقد وصف الصحفي البحريني علي السيار هذه الغرفة فقال: «في الأزقة والحواري الضيقة من أحد الأحياء الشعبية في الكويت كنت أتوه في الطريق أحياناً ولكن سرعان ما ترشدني بعض الإشارات التي ميزتها، دخلت عليه الحجرة وفي يده كتاب باللغة الإنجليزية فلما رآني ألقى الكتاب وطالت جلستنا وكان حديث المستقبل هو الذي يشدنا لقد امتدت الجلسة إلى أربع ساعات».
في سنة 1958 زار الزعيم الجزائري أحمد بن بلله الكويت لطلب مناصرتهم في ثورتهم فنظمت حملة تبرعات فتبرع سيف بجميع راتبه لهم، في سنة 1959، وفي بداية الصيف عزم سيف على الرحيل من الكويت لمواصلة مسيرته العلمية في أوربا فتوقف في بيروت والتقى بالمثقفين العرب الذي يعرفون أوربا جيدا وأخذ يجمع المعلومات فاستقر رأيه على التوجه إلى النمسا واختار مدينة جبلية هادئة وهي مدينة «كراتس» فتعلم اللغة الألمانية وهي اللغة الرابعة التي يتعلمها بعد العربية والانجليزية وقليلاً من الفارسية.
بقي في النمسا سنة كاملة حتى أتقن اللغة الألمانية ولكنه صُدم أنّ المال الذي ادخره للتعليم أوشك على النفاد فبدأ يفكر في العمل لسد احتياجاته ولم تكن هناك فرصة لعمله في النمسا فقرر الرحيل إلى ديسلدورف في ألمانيا وعمل هناك في شركة إنشاءات بوظيفة مساعد مهندس وبراتب قدره 700 مارك فوجد نفسه لا تبارح مكانها فقرر ترك العمل حيث يقول في رسالة وجهها إلى صديقه القديم محمد القرق:
«بالنسبة لي لقد استقلت من الشركة بتاريخ الأول من سبتمبر عام 1963 بحجة الرغبة في العودة إلى الوطن وزيارة الأهل وفي كتاب قبول الاستقالة أبدت الشركة استعدادها في إعادتي لعملي عندما أرغب في ذلك».
وجد سيف إعلانا لشركة سويسرية تطلب مهندسين ومساعدين لهم وبرواتب مغرية فتقدم لامتحانهم في سويسرا فنجح فيه وعين مساعداً لأحد المهندسين فانتقل إلى زيورخ في أكتوبر من نفس السنة.
كان يتردد كثيراً في هذه الفترة على روما ليلتقي بصديقة وائل زعيتر حتى تعلم كثيراً من اللغة الايطالية، وكذلك يذهب عند صديقة علي حميدان الذي كان يدرس في باريس وقد أخبره أنه ينوي الانتقال إلى باريس لإكمال دراسته وهذا ما حصل في صيف 1964 حيث بدأ بتعلم الفرنسية ولم تمض عدة أسابيع حتى استطاع أن يعبر عن نفسه بها وكان أعجوبة في حفظ اللغات.مسار مختلف
لم تعترف الجامعة الباريسية بسنواته التي تعلمها في العراق ولهذا اضطر أن يبحث عن مكان آخر فحصل على منحة فيما كان يسمى الاتحاد السوفيتي فالتحق بجامعة ليننجراد وأكمل دراسته في هندسة البناء، وكان جاداً في تعلمه فأجاد الروسية في وقت قصير وهي اللغة السابعة التي يتعلمها ثم بعد إنهاء الجامعة تقدم لدراسة الماجستير وكان تخصصه في بناء الموانئ البحرية فتخرج سنة 1967 وانتقل بعدها إلى باريس لإكمال دراسته العليا ولكنه لم يستطع بسبب زواجه وكلفة المعيشة فقرر الرجوع إلى وطنه ومسقط رأسه رأس الخيمة في سنة 1969 ليعمل رئيسا لقسم الهندسة في البلدية.
أعجب بخبرة سيف وذكائه المغفور له الشيخ صقر بن محمد القاسمي وكان يسافر معه في زيارته الرسمية وقد شارك أيضا في وفد رأس الخيمة للاتحاد التساعي.
بعد قيام دولة الإمارات العربية عين معالي أحمد خليفة السويدي وزيراً للخارجية والذي اختار سيف غباش وكيلا لوزراته فاستلم منصبه بحماس كبير وأخلص في عمله وكان يحرص على إخراج جيل مميز من الدبلوماسيين يمثلون الدولة في الخارج ويحثهم على تعلم اللغات والمحافظة على العربية.
في سنة 1973 تم تعيين سيف وزيرا للدولة للشؤون الخارجية وهو منصب يعد مساعداً لوزير الخارجية السويدي آنذاك.
لقد كان سيف مثال الطالب المجد الصابر على تعلم العلم إلى يومه الأخير كثير التواضع منهمكا في عمله، حريصا على مصلحة وطنه يمثله بكل إخلاص ودراية يشهد بذلك كل من عرفه وعمل معه.
في يوم الخامس والعشرين من شهر أكتوبر سنة 1977 أصيب سيف بن غباش بطلقات آثمة وهو يودع أحد الضيوف في المطار فسقط مضرجاً بدمه الطاهر وفارق الحياة شهيدا وفداء لدولته رحمه الله وأدخله فسيح جناته، وقد عاش حتى لقي ربه، كان مثالاً للصبر والتضحية من أجل تحصيل العلم والخبرة التي أفاد بها دولته وهي في ريعان شبابها.