2,040 عدد المشاهدات
د. هياء بنت عبد الرحمن السمهري–كاتبة وباحثة سعودية
يشرق في بلادنا اسم الأديب الشاعر المؤرخ الصحفي الموسوعي عبدالله بن خميس، رحمه الله، في الساحات والزوايا، عندما يلتقط الراصدون وجيب وطننا الأشم المملكة العربية السعودية، ومآثر بلادنا وتراثها وتاريخها العريق، وعندما يتذوقون الشعر الوطني فإنه، رحمه الله، منبعهم الغزير، وعندما يرصدون مسيرة الصحافة السعودية فإنه، رحمه الله، ممّن يثقل الميزان، وعندما يدوّنون تاريخ الأرض وكنوزها؛ فصورها المضيئة في مؤلفاته نبضٌ حيٌّ في “تاريخ اليمامة”، و”معجم اليمامة”، و”المجاز بين اليمامة والحجاز”، و”على ربى اليمامة” وغيرها.
فلقد جمع طرقاً عديدة في التلقي، وهو إعلاميٌّ متميِّز سُمِعَ صوتُه وعُرِفَ منهجُه الإعلاميُّ في الإذاعة والتلفزيون، وعُرِفَ قلمُه وأسلوبُه في كتاباته الصحفية، وكلُّ ذلك كرَّس حضوره في المشهد الثقافي السعودي بصفته المميزة. وابن خميس صاحب رسالة ثقافية امتلأ بها وشغلته، فكانت محفزاً ليخوض معاركه الصحفية انطلاقاً من قناعاته ليكون أوَّل رئيس للنادي الأدبي بالرياض، ومؤسِّساً لمجلة الجزيرة التي أصبحت من أكبر المؤسَّسات الصحفية، وهو من أنشأ مطابع الفرزدق، وهو عضو في المجلس الأعلى للإعلام حين إنشائه؛ وعضو في مجلس دارة الملك عبدالعزيز وتلك المواقع، مما يُعنى بالشأن الثقافي في شمولية مفهومه.
ولابن خميس باعٌ طويلٌ في علوم اللغة والنقد الأدبي والأدب الشعبي والتاريخ والجغرافيا، وله مؤلفات متينة المحتوى بصيرة في المعلومات تقطر حلاوة في جمال أسلوبها وسبك عباراتها. عاش حياته متصدراً لمجالس المثقفين والنسّابة والمؤرخين والجغرافيين والشعراء والصحفيين، ولما تقدَّمت به السنُّ كانت له في مجلسه إطراقة صمت تشبه إطراقة الفلاسفة المهيبة التي طالما تعجَّب منها روّاده والشغوفون بحديثه، وما لبثت أن كانت ملازمة له حتى رحل إلى جوار ربه في منتصف عام 1432هـ، وبقيت من خلفه صفحات موسوعية أشرق فيها بياض الورق؛ فاصطفى من جزيل الفكر وقوي المحفوظ وبديع الرأي والقدرات العقلية الشاملة، فأقيمتْ له ندوات تأبين ملأى، وصحائف رسمية مكتنزة، وأقوال وأفعال من الذات الرسمية في بلادنا. وختام التأبين ندوة علمية أسهمت دارة الملك عبدالعزيز والنادي الأدبي في صياغة محتواها وتنظيمها، وضمت أوراق عمل ثمينة شاملة، وتوّجتْ الندوة العلمية بنشرها في كتاب بعنوان “السجل التوثيقي للقاء العلمي عن الأديب الشيخ عبدالله بن خميس” صدر عن دارة الملك عبدالعزيز والنادي الأدبي بالرياض عام 1436.
عن قرب
نرصد للقارئ هنا بعضاً من الحكايات المحفزة عن الأديب الشيخ عبدالله بن خميس واستباقه الشخصي، ولعلَّني أُحْسِنُ فهرسة الذاكرة، وأحاولُ التماهي بين الذات والموضوع للانتقاء، حيث تسرَّبتْ لقربي منه بعضٌ من معلوماته الفاخرة في نظري، ما شكَّل عندي يقيناً جديداً عن دور تلك الحكايات في التكوين الشخصي للذات المبدعة عند عبدالله بن خميس، رحمه الله. ولأنَّ التاريخ وأمانة الكلمة يحتّمان علينا أن نكتب بأبجدية محددة، ولكن الوجدان يشترط علينا تفاصيل وفاء نرصفها فوق نُصبٍ تذكارية؛ فالمبدع الموسوعي عبدالله بن خميس استغرق عمره في صناعة ملحمته وتأبط أسطورته، وبدأ يُعالج أقفال الحكاية؛ فيروي لنا أنه كان يوغلُ في مزارع “الدرعية” برفقة كتاب، يتدرَّب على الإلقاء فيكون النخل هو الحضور والجماهير وتلة صغيرة هي منبره، وقد نجح ابن خميس في ترويض رعب المنبر باكراً، وكان يسوس نفسه للمسيرة الفاخرة، ولكنه رحمه الله، عندما وصل إليها لم يصب بداء النخبة ولم ينتجع المقاصير العاجية، بل كان للناس وبين الناس يبسط شؤونهم.
بعض من مؤلفاته
تأهل ابن خميس باقتدار لحمل المواقع الجغرافية وتحميلها تاريخها بدقة لافتة وبأحاسيس الأديب المواطن؛ فيذكر في رحلته لبلاد اليمامة ليجمع مادة كتابه الموسوعي “معجم اليمامة” مشاهد قصة حقيقية عندما نزل من السيارة هو ورفاقه، حينما وجدوا فتاة في منحدر جبلي يقول: “وعند المنحدر الجنوبي لخشم الثمامة شعب منزو حيث لا تصله السيارة، فجئناه راجلين وحينما وقفنا على “قلاته”، وهي النقرة في الجبل يستجمع فيها الماء، وجدنا حذاء وكساء امرأة وأثرها جديداً، فوقفتُ على قمة الجبل حيث تنحدر مياه الشعب، فإذا امرأة في “رف” وسط هذا المنحدر مستوحلة هناك، لا تستطيع أن ترقى فوق، ولا النزول إلى تحت، قد أخذ الجبل من لباسها وكشط ذراعها ما بدتْ آثاره في حيِّز لا يتجاوز المترين طولاً ونصف المتر عرضاً بينها وبين المنحدر السحيق، وقد دفعتها رهبتها منّا إلى التجوال اللاشعوري، ما دفعني أن أبعد الرفاق وأكتفي بواحد لِأَخْذِ خبرها وملاطفتها ثمَّ إنقاذها من الموت، فلما هدأ روعها حدرنا إليها حبلاً لتحزمه في وسطها ولنجذبها به، ولما تمَّ ذلك إذا بنا أمام فتاة في عنوان شبابها تمثِّل الجمال البدوي الجذّاب، وأخذتنا الحيرة في نفورها وفي زينتها التي ترتديها وروائح العطر المنبعثة، وفي هذا الشعب الغامض والمكان المحتجب عن المارة ومسارح الرعاة، ولم نفلح في الحصول منها على خبر فتركناها تذهب إلى حيث تشاء وعلامات الاستفهام تلاحقنا! وكان صاحب السمو الملكي الأمير سلمان، مخيماً في قبلي الثمامة عام 1387هـ، إبان الربيع الكبير في ذلك العام، فأخبرتُهُ بالقصة فحرص أن يرى مكانها، فذهب إليها وكنتُ معه فتعجّبَ سموه من ذلك، وعلمنا أنَّ الفتاة قد زُفَّت إلى زوج لاتريده! ففرَّت بلباس زينتها تلك الليلة وأنها عادت إلى أهلها بعد أيام، هذا هو ابن خميس الشهم صاحب المروءات والنجدة، الذي نهض بمهمته كمواطن غيور على نساء بلاده؛ فأوقف رحلته لبذل العون لتلك المرأة وهي مستوحلة في الجبل.
جملة موضوعات
وتزخر مذكرات ابن خميس “شؤون وشجون من واقع حياتي” برصد وفير عن مآثره ونخوته وشهامته، وهذه المذكرات لم تُنشَر إلى هذا الوقت، أَبان ابن خميس في مقدمتها أسباب ذلك! وهناك نسخة مخطوطة منها في مكتبة الملك فهد الوطنية. واشتملت سيرة الأديب على جملة من الموضوعات اللافتة؛ منها «صورة المرأة في شجون ابن خميس، نماذج من التعاون القروي، بواكير تعليميه في حائل، شؤون ابن خميس في جهاز الزكاة، ابن خميس والصداقة والأصدقاء، حديث شيق عن النبوغ الأدبي وشؤون الصحافة، والعمل الرسمي ورؤى ابن خميس التطويرية”. وكلُّ ما ذكرناه من معلومات مجملة في مذكرات ابن خميس يزخر ببدائع الحديث وبراعة الصور والقصص الخلّاقة التي تروي شجاعته وقتله للذئاب المعتدية على مواشي جيرانه! وغير ذاك من المواقف، وفي تلك اللوحات صور شتى تعكس ثقافة ابن خميس ونبوغه وبواكير تعليمه وتكوينه الشخصي الذي انعكس على حضوره الثقافي في عصره.
اللغة كائن حي
من اللافت أنَّ الأديب عبدالله بن خميس قد نظم الشعر الشعبي وهو شاعر الفصحى الذي لا يُشقُّ له غبار، ولابن خميس نظرية تقترب من نظرية اللغويات التي يتحدّث عنها علماء اللسانيات وهي وجود العلاقة الحتمية بين المعنى في اللغة وكيفية التعبير عنه نحوياً وصوتياً، كما يؤمن ابن خميس بأنَّ اللغةَ كائنٌ حيٌّ يخضع لقانون الوجود، وكمٌّ وافرٌ من التحولات. ونظرية ابن خميس لم تغلق الباب دون الموروث الشعبي، بل استجلبته كأحد المكونات الثرية تاريخياً ولغوياً لثقافات الشعوب.
وممّا يؤكد حماسه للفصحى قوله:
إذا سَرَتْ في لسانِ القومِ بادرةٌ
عجماءُ فاستمرأوها بئسَ ما اختاروا
وقوله:
وإذا أُصيبَت أمَّةٌ بلسانها
نادتْ على تقويضها مأساتها
وممّا يؤكد إبداع ابن خميس أيضاً في الشعر الشعبي قوله في الدرعية عندما أصابها الجدب:
سلام يا دار تربّع في مفيض الوصيل
نخوة بني مقرن هل العادات تُعزى لها
دار الشرف والمرجلة والمجد عز النزيل
لين جا بوادر قالة فانشد رجالها
وهناك فنٌّ نثريٌّ أنيقٌ برع فيه الأديب ابن خميس واختفى ذكره من تاريخه الأدبي، وهو فنُّ الرسالة، وقد شاع هذا الفنُّ في العصر العباسي، وتبارى في إتقانه الخلفاء ورؤساء الدواوين، وجُل ما ورد عن ابن خميس جُمِعَ من أرشيفه الشخصي ومنها الرسائل الديوانية التي تُكْتَب في شؤون الدولة وما يعالج شؤون الإدارة والتنظيم الداخلي والمقترحات والشفاعات، والرسائل الإخوانية، وهي عند ابن خميس زاخرة وافرة وفيها تنوُّع وطرفة وجمال ومواقف.
رحم الله ابن خميس؛ فلم يكن خطابه الوطني والأدبي والثقافي خاصاً بذاته المبدعة، بل كانت حياته دائرة تستكمل دورانها وهو متأبِطٌ حلمه الذي لا بُرْءَ منه، ويداه متيمتان بتراب وطنه.