1,444 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
بعد تسعين سنة من رحيل غوستاف لوبون العلّامة كما يسمّيه الأديب الكبير عادل زعيتر الذي بهر الزعماء والعلماء والعامة بعلومه وغزارة عطائه وصواب آرائه، مما جعله فريداً في عصره غريباً في فكره، ولا نزال نذكره ونثني على إنصافه الذي جعله عالماً وعلى علمه الحقيقي الذي جعله منصفاً؛ لأنه ولد في الأربعين الأولى من القرن التاسع عشر، ورحل في الثلاثين الأولى من القرن العشرين، ورأى العلم يتغير ويزيد، ثمَّ رأى التقنيات الحديثة تسيطر على البشرية وتفيدها، وشهد أيضاً الحرب الفرنسية البروسية التي هُزِمَت فيها دولته شرَّ هزيمة، وطال به العمر حتى شهد الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٨) ورأى الدمار يحل بفرنسا وكثرة القتلى في كلِّ مكان، ثم اختيار باريس لتكون مكاناً للصلح وذلك لكثرة القتلى في فرنسا والدمار ولوجود عدد كبير من الجنود الأمريكيين. كل هذه الأحداث كانت دافعاً لهذا العالم الكبير أن يتفنَّن في العلوم كالفيزياء والاجتماع والنفس والتاريخ وعلم الإنسان (الانثروبولوجيا) ويبلغ فيها الغاية القصوى، ولم يمنعه دينه ولا جنسيته أن يكون منصفاً في مؤلفاته التاريخية، خاصة هذا الكتاب الذي ندندن حوله ونذكر محاسنه وقد ننقل لكم بعض ما أثير حوله من شبهات، وجلَّ مَن لا يسهو وعزَّ مَن لا يخطئ ولا يغفل؛ لأنَّ الكتاب الوحيد الذي لا ريب فيه هو كلامه عز وجل وما عداه فهو محل الخطأ والنسيان، فكيف إن كان المؤلف من ملة ولسان وعنصر يختلف تماماً عن ملتنا ولساننا وعنصرنا وتاريخنا وطريقة فهمنا للأمور وتسليمنا للمعتقدات التي رواها المسلمون وحفظوها على وجه التسليم. أما هو فيختلف تماماً فكره ونهجه النقدي الذي يبحث ويحقق كلَّ شيء ولا يمنعه مانع كما يمنع المسلمون المحظورات الشرعية والعادات المتوارثة التي قد تصل إلى حد القمع الفكري عند بعضهم من غير دليل ثابت ولا عقل راجح.
كتاب “حضارة العرب” الذي نتحدَّث عنه كتاب منصف جداً كُتِبَ بقلم رجل قليل مَن بلغ درجته العلمية وذكاءه الخارق الذي بهر الناس ولا يزال يبهرهم ويبهرني كلما فتحت صفحة من صفحات كتبه التي أحياها في العربية المترجم النابلسي زعيتر رحمه الله، ولهذا وجب علينا أن نبادله الإنصاف ونثني عليه بالحق كما أثنى علينا بالحق ونظهر مزاياه للجيل الحديث كما أظهر مزايانا لأبناء جلدته في عصره الذين غسلت أدمغتهم بكره العرب والمسلمين الكنائسُ والمتنفذين الأوروبيين وأصحاب الفن والإعلام لأسباب عدة لعلي أذكرها لكم في مقالات أخرى.
مزايا كتاب حضارة العرب
سأنقل لكم بعضاً من كلام عادل زعيتر في مقدمته لنعرف ما أهمية لوبون وما يمثله للعرب من إضافة في المجتمع الغربي؟
يقول زعيتر: “لم تخلُ أوروبا من مؤرخين أبصروا ما للعرب من فضل في تمدين أوروبا؛ فألفوا كتباً اعترفوا فيها العرب بما ليس فيه الكفاية. وقد راع هذا الجحود الغلامة الفرنسي الكبير غوستاف لوبون وهو الذي هدته رحلاته إلى العالم الإسلامي ومباحثه الاجتماعية إلى أنَّ العرب هم الذين مدّنوا أوروبا، فرأى أن يبعث عصر العرب من مرقده وأن يبديه للعالم في صورته الحقيقية”.
هنا يلخص لنا المترجم الأديب لماذا انبرى غوستاف لهذا العمل النبيل، فهو رأى الجحود والتقصير في علماء بني جلدته تجاه الأمة العربية التي لها أفضالها على العالم وأوروبا، وبسبب إنصافه أخرج لقومه هذا الكتاب عام ١٨٨٤ ولم يدُرْ في خلده أنه سيكون في متناول العرب ويأتي من بعد كل هذه العقود من يحيي ذكره ويحييه على هذه الروح العلمية الرائعة المتصالحة مع العدل والسماحة.
ثمَّ يقول زعيتر: “رد لوبون على الزعم القائل بأنَّ الإسلام انتشر بالقوة فقال: إنَّ القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن (فلو كانت كذلك) ما ترك العرب المغلوبين أحراراً في أديانهم”. وقال أيضاً: “لم ينتشر الإسلام بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب.”
ومن كلام لوبون وإكثاره عن تسامح العرب وأخلاقهم العالية يظهر منه انبهاره بالحضارة العربية وانجذابه لها.
هذا وقد ساق زعيتر أمثلة كثيرة على إنصاف المؤلف ودوره الكبير في تغيير نظرة قومه عن الإسلام والعرب، وسوف نذكرها في المقالات القادمة ولكن هناك مآخذ أخذها عليه بعض النقّاد سأذكر لكم بعضها مع مناقشتها.
المآخذ على كتاب حضارة العرب
قرأت مجموعة من المآخذ على كتابه، ولعلَّ بعضها بسبب ضعف علم الناقد بعلوم الحديث والسيرة النبوية مما جعله يسرع في مهاجمة غوستاف بغير حجة كشعور بعضهم بأنَّ لوبون ينكر المعجزات التي صاحبت ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنهم يقولون بأنه يشكك في نبوة رسولنا المصطفى في قولهم: “وجه لوبون أصابع الاتهام إلى العرب الذين أرادوا أن يضفوا على زعيمهم هالة من القدسية والعظمة، لذلك رأوا أن يقرنوا ميلاد زعيمهم الأعظم بالآيات فرووا أنَّ العالَم اهتز لولادته، وأنَّ نار المجوس المقدسة خبتت، وأنَّ شياطين الشر دحرت من أعلى بالشهب، وأنه تصدع من أبراج إيوان كسرى «ملك الملوك» أربعة عشر برجاً إيذاناً بقرب انهيار دولة الفرس العظمى” والحقيقة أنَّ تشكيك لوبون بهذه الرويات عن ولادة الرسول الهادي ليس وحيداً فيها فقد قال صاحب “اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون”:
وهذه العلامات لم تثبت بطريق صحيح، لكنها مشهورة، فمنها:
1 – أنه لما ولد -صلى الله عليه وسلم- ارتج إيوان كسرى.
2 – سقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى.
3 – خمدت النار التي كان يعبدها المجوس.
4 – غاصت بحيرة “ساوة”.
5 – انهدمت المعابد التي كانت حولها ؛ أي حول بحيرة “ساوة”.
فهذه الأخبار وغيرها لم تصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأنى للناس أن يعرفوها أو يذكروها، ولكنها من وضع الوضاعين وحق للعلامة الذكي أن يشكك فيها في حين علماء الحديث نفوها وردوها ما عدا النور الذي رأته والدة الرسول صلى الله عليه وسلم في منامها عندما حملت به.
هذا وللمقالة بقية نتابعها غداً إن شاء الله
تقرأون غداً
•مآخذ العلماء على كتاب حضارة العرب