1,356 عدد المشاهدات
الكاتب: محمد بابا
تدلُّ الحفريات والشواهد الأثرية لقصر الحصن على عظمة البناء وفرادته، لذلك تعدُّ دراسة الطراز المعماري لهذا القصر مبحثاً لا بدَّ من الوقوف عليه لمعرفة مكونات البناء والنمط الهندسي العام، والتحولات التي شهدها هذا المبنى، والتغييرات التي طرأت عليه على مرّ الحقب.
وتجمع أغلب الدراسات على أنَّ قصر الحصن اعتمدت مواد بنائه على ما كان موجوداً محلياً؛ مثل المرجان والحجر الرملي والأحجار البحرية من الإقليم الساحلي لأبوظبي، إضافة إلى الجص الذي استعمل أساساً لغرض تغطية الجدران وإعطائها الشكل النهائي، والصاروج «وهو نوع من أنواع المواد الكاسية»، والمدر «وهو ما يطلق محلياً على الطين»، لكن العنصر الرئيس الذي صبغت به جدرانه بشكل أساسي هو خليط مصنوع من الكلس والرمال المحلية والأصداف البحرية المطحونة.
كما اعتمد على دعامات قوية من الأخشاب، التي هي عنصر مهمٌّ يستخدم في طريقة البناء التقليدية للحصون؛ ومنها جذوع النخيل وسعفه وأخشاب الجندل وهي أشجار «المانغروف» وقد استخدمت هذه الدعامات المتشابكة والمترابطة بالدعون والمدهونة بالقطران في تغطية الأرضيات وبناء السقوف لما تتمتّع به من صلابة وقدرة على التحمُّل والدوام لمدة زمنية طويلة، وكانت تُجْلَبُ من سواحل إفريقيا الشرقية والهند.
أنماط وتأثيرات
والمسوغات الموضوعية لبناء الحصون تاريخيّاً مندرجة تحت غرض الحماية والدفاع، وكانت ترفق بأبراج للاستطلاع ورصد القادمين. وقصر الحصن من ضمن هذه الحصون، حيث تمَّ بناؤه وفق طراز إسلامي تميّز بقابليته للإضافة والتطوير حسب الحاجة والوقت لاستخدامه في أغراض السلم والحرب للغارات المفاجئة، وقد بُنِيَ ليكون مسكناً للحاكم في وقت السلم، وملجأً لجميع رعيته في وقت الحرب.
وشُيِّد هذا المبنى بأمر من الشيخ شخبوط بن ذياب آل نهيان، الذي حكم أبوظبي في الفترة من 1793 إلى 1816 وحوّل مركز السلطة من ليوا إليها، وقد بناه مسكناً له ولعائلته، وملاذاً للسكان وقت النزاعات، وكان الحصن مربع الشكل في بدايته، حيث طرأت عليه تغييرات لاحقة، واستخدم في بنائه المرجان والحجر الجيري. وعن الوصف الهندسي للمبنى؛ فهو مخطّط أرضي مستطيل، وبرجان أسطوانيّا الشكل متقابلان قطرياً يقعان في الزاويتين الشمالية الشرقية والجنوبية الغربية على التوالي، يصل بين هذين البرجين البارزين سور الحصن الخارجي، ويظهران وكأنَّ كلاً منهما بناءٌ ذو طابق واحد.
وقد طرأت تعديلات على الحصن في بداية القرن التاسع عشر، في عهد الشيخ طحنون بن شخبوط حاكم أبوظبي (1818 – 1833م) الذي قام بتوسيع الحصن، لتتحوّل القرية الصغيرة التي تكوّنت من عدد قليل من أكواخ «البرستي» إلى بلدة كبيرة يقطنها أكثر من خمسة آلاف شخص. ويأتي بعد ذلك الشيخ سعيد بن طحنون حاكم أبوظبي (1845 – 1855م) ليتولى تنفيذ توسعة أخرى للحصن، وإضافة المزيد من التحسينات في خمسينيات القرن التاسع عشر.
وفي عهد الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان، حاكم أبوظبي (1928 – 1966 م)، وبعد أن أصبح للنفط عوائد، أحاط الحصن الأصلي بحصن جديد وكان ذلك سنة 1940، فجعله أكثر هيبة وأضاف أجنحة عليه. وفي عام 1966 أضاف الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، بعد تسلمه مقاليد الحكم في أبوظبي، دارين لساحة المبنى لأغراض إدارية، إحداهما كانت لديوان الحاكم، والأخرى لمركز الوثائق والدراسات الذي تأسَّس تحت إشراف معالي أحمد خليفة السويدي في عام 1968، وقد تحوّل الآن إلى الأرشيف الوطني، ويعدُّ من أهم حواضن توثيق تاريخ الإمارات والمنطقة.
وبعد ذلك أمر بعملية تجديد شاملة على مبنى قصر الحصن، ليحوله من مقر إقامة للأسرة الحاكمة إلى متحف ومعرض للكثير من القطع والمجموعات الأثرية التي ترتبط بتاريخ أبوظبي ومنطقة الخليج.
هندسة دفاعية
ومن أفضل الكتب التي درست الطراز المعماري لقصر الحصن كتاب «قصر الحصن» الصادر عن المجمع الثقافي في أبوظبي سنة 1997، للباحثة العراقية ريم طارق المتولي، وقد درست بشكل معماري تخطيط القصر من خلال الصور التاريخية، والمسوح الجغرافية، والفحص الميداني لمكونات البناء وعناصر التكوينات، ودعمت دراستها بالصور والخرائط والرسوم التوضيحية.
وقد نوَّهت في دراستها إلى إشارة مهمة، إذ إنَّ الكثير من الناس يخلط بين القلاع والحصون المحلية والبرتغالية، معتقداً بأنَّ هذه الحصون بقايا من تراث أجنبي، حيث قورنت دائماً بالحصنين التوأمين جلالي وميراني، اللذين بناهما البرتغاليون لحراسة خليج مسقط، وحصون أخرى بنوها في الساحل الشرقي للإمارات؛ مثل التي في كلباء وخورفكان وجلفار، لكن هناك تراث قديم في بناء الحصون في الجزيرة العربية، يدل عليه الكثير من الكشوف الأثرية، ومن ذلك حصن بهلة في عمان، والذي يعود إلى ما قبل الإسلام، وكذلك قلعة عراد القديمة في المحرق البحرينية.
لكن هذا لا ينكر تأثير الهندسة الدفاعية التي طرأت على الحصون الأوروبية في الحصون المحلية، وذلك بعد ظهور استخدام البارود والمدافع في الحروب، حيث اعتمدت العمارة العسكرية الدفاعية على برجين فقط، أمّا قبل استخدام البارود فكان متعدد الأبراج في الزوايا والأطراف، وخير مثال على حصون فترة ما بعد استخدام البارود قصر الحصن في أبوظبي.
حصن وأبراج
وقد كان الحصن في شكله الأصلي بناءً مربع الشكل بمدخل شمالي مقابل للبحر، له بوابة مستطيلة، وللحصن مخطّط أرضي مستطيل وبرجان متقابلان يصل بينهما سور الحصن الخارجي، ويظهران وكأنَّ كلاً منهما بناءٌ ذو طابق واحد. وتستقرُّ ثقوب السلاح في الطابق الأول من البرج، بالتناوب مع نوافذ مربّعة وصغيرة تمتد حول البرج، ويقف برج آخر في الزاوية الشمالية الغربية يسار المدخل الرئيس للحصن، ووفق صور بركارد للحصن سنة 1903، تظهر 3 مبانٍ داخل الحصن يتكوّن كلٌّ منها من طابقين، كما تظهر صورة أيقونية التقطت لزايد الأول وهو يجلس قبالة القصر مع بعض حاشيته، مدخل بوابة الحصن وإلى جوارها مدفع دفاعي، كما يظهر سور الحصن بكامله.
وقد مثل قصر الحصن بأسواره العالية، وأبراجه المنيفة، ومدافعه المنصوبة استعداداً للدفاع عن الأرض والحوزة والرعية، سلطة رمزية ومعنوية ومكانة اجتماعية ووجهة اعتبارية سياسية، كما كان هذا القصر ملتقى الأعيان وأهل الحل والعقد على مدى أكثر من قرنين من الزمن، ما جعل منه ملمحاً لا يغيب عن الذاكرة الظبيانية والوطنية.