2,009 عدد المشاهدات
هي رحلة شهيرة استحوذت على حيِّز مهم في تاريخ الأدب المعاصر، عاش غمارها وكتب تفاصيلها بأنامله، المستكشف وعالم الخرائط الألماني كارستن نيبور، كتبت في مجموعة من الإصدارات، وذلك لكثرة ما احتوته من تفاصيل لا يسعها كتاب أو كتابان، لنختار لكم منها بدورنا ثلاثة كتب، اثنين حملا نفس العنوان “كارستن نيبور- رحلة إلى شبه الجزيرة العربية وإلى بلاد أخرى مجاورة لها″، في جزئين منفصلين ترجمتهما إلى العربية الأستاذة عبير منذر، صدرا عن دار الانتشار العربي بلبنان، وطبعا سنة 2007. والكتاب الثالث يحمل عنوان: “كارستن نيبور – وصف أقاليم شبه الجزيرة العربية″، ترجمه إلى العربية الأستاذ مازن صلاح، وصدر عن دار الانتشار العربي بلبنان، في طبعته الأولى، سنة 2013
في يوم من الأيام، اقترح أحد الأساتذة أن يشارك كارستن نيبور في رحلة علمية أمر بها الملك فريديريك الخامس ملك الدانمارك في الرابع من يناير سنة 1760، وكان هدف الرحلة كتابة تقرير علمي واجتماعي شامل عن شبه الجزيرة العربية وسوريا ومصر والعراق وغيرها، ووافق نيبور على الاقتراح وانخرط في دورة مدتها عام ونصف العام تقريباً، درس فيها علم الرياضيات والمساحة والخرائط وبعض الدروس في اللغة العربية بشكل مكثَّف، ليتأهَّل لموقعه في البعثة مسَّاحاً وراسماً للخرائط. ومع مطلع العام الموالي بعد انتهاء الدورة، أبحرت الحملة لتصل إلى الإسكندرية، ثمَّ القاهرة، ثمَّ جبل سيناء، ثمَّ السويس، وبعدها جدة ومكة، ثم مخا في اليمن وغيرها من مدن الجزيرة العربية.
كتب نيبور عن جميع المناطق التي زارها، ورسم الخرائط لها، وتحدث عن السكان والقبائل والأديان والمذاهب، ومن بين ما أشار إليه في رحلته الطويلة أنَّ: “سكان اليمن؛ أي سكان الجزء الجنوبي لشبه الجزيرة العربية، الذي يعرفه الأوروبيون باسم العربية السعيدة، كانوا في العصور الغابرة متحضرين ومشهورين بتجاربهم مع الأجانب″.
وأضاف: “إنَّ هذا البلد لا يزال الأهم بنظر العلماء، لذا استحقَّ أن يعرف بدقة أكبر، وكنَّا قد استفدنا من اللغة العربية في ترجمة مقاطع عدَّة من الكتاب المقدس، لكن هذه اللغة تنقسم إلى لهجات محلية عدة، شأنها في ذلك شأن اللغات القديمة المستخدمة في بلاد شاسعة، وتبقى لهجة اليمن لغزاً يحيِّر علماء أوروبا. ويمكن لشبه الجزيرة العربية أن تشكِّلَ حقلاً واسعاً للاكتشافات بالنسبة إلى علماء الطبيعة؛ فقد يجد مترجمون في الأسماء التي يطلقها العرب على النبات والأحجار وغيرها تفسيراً لأسماء كثيرة وردت في الكتاب المقدس. وتحصد الجغرافيا فوائد عدة من رحلة كهذه؛ إذ تكثر عندنا الكتب العربية القديمة حول التاريخ والجغرافيا التي ينبغي معرفة وضع الجزيرة الحالي لفهمها، كما أتت الكتابات المقدسة على ذكر مدن عربية عدة، ويمكننا ذكر أسباب أخرى جعلت محبي العلوم يتمنون أن تقوم بعثة العلماء برحلة كهذه″
وبعدما ذكر نيبور أسباب رحلته ونتائجها في بداية وصفه لشبه الجزيرة العربية أردف قائلاً: ″بالرغم من أنَّ الموت غيَّب رفاقي، فلا ينبغي اعتبار أعمالهم وكأنها هباءً منثوراً؛ إذ إنَّ السيد فورسكال قد قام بعمل جبَّار حتى مرض، وزودني بمعلومات مهمَّة عن التاريخ الطبيعي، كما ترك السيد دي هافن معلومات دقيقة حول الرحلة من كوبنهاغن إلى القاهرة، ومن السويس إلى جبل سيناء″. ويضيف: ″إنَّ الذين يقرؤون العمل، يقرؤونه للتسلية وإزجاء الوقت، يستمتعون حين يروي المسافر قصصاً هزلية عن طريقة حياة الغرباء، وعن المصاعب التي واجهها هناك″.
ويعترف نيبور قائلاً: “إنَّ هذا أكثر إمتاعاً من وصف جاف للمدن والطرقات التي مرَّت بها البعثة، وليسهل عليَّ جمع عدد كبير من هذه القصص اللافتة والممتعة، فلقد تكبَّدت مشقَّةً كبيرةً حين رسمت خرائط المدن، ووضعت تفاصيل الطرق، لكن محاولة تسلية القارئ ستدفعني إلى إهمال الأبحاث المفيدة التي هي هدف الرحلة. لكني لم أتمكَّن من كبت شعوري حين وجدت أنَّ العرب لا يقلون إنسانية عن الأمم الأخرى التي تدعي الأدب والتهذيب، ولقد أمضيت في البلاد التي زرتها- كما ينبغي أن يتوقع كل مسافر- أياماً ممتعة وأخرى مزعجة. وكنت قد كلفت دراسة الجغرافيا، والذين يعرفون هذا الميدان، يقدِّرون ما ينبغي تكبُّده من متاعبَ لجمع معلومات في بلد غريب، ولا يجهلون أهمية مهمتي، وبالتالي يستطيعون إطلاق حكم سليم حول مدى إنجازي لها”
هي عبارات أدلى بها نيبور بعد تجربة طويلة حصد منها إرثاً تاريخيًّا مهمًّا عن العديد من البلدان التي شملت دراسته العلمية، وكانت البداية من كوبنهاغن إلى القسطنطينية وهي ما يعرف بإسطنبول عاصمة تركيا حاليًّا، التي استهلها بوصف موقعها الجغرافي، وما يحيط بها من أقاليم، وأحيائها الواقعة خارج الأسوار وعلى ضفاف البحر، ووصف تقديري لعدد السُّكان الذين لم تكن لديهم إحصائيات أو تسجيلات رسمية كما هو اليوم، وتحديد ملامح المدينة وكيفية توزيع السكنات فيها، ووصف سقوف المنازل المنخفضة مقارنة بالمنازل الأوروبية، والمساحات الخضراء التي تترك بجوارها. شوارع المدينة التجارية مكتظة، لكن لا يحب أهل المدينة اصطحاب الأجانب إلى المنازل التي تقيم فيها عائلاتهم، مما يمنع دخول التجار والحرفيين إليها، ويعمل هؤلاء التجار والحرفيون في محال صغيرة على طول الشوارع التجارية، لذا لا نرى في بعض الأحيان سوى نجَّارين في أحد الشوارع، وحدَّادين في آخره، أو صائغين، أو تجار حرير أو صانعي أمشاط أو غيرهم. فيما يتوجَّه الآلاف من هؤلاء إلى القسطنطينية صباحاً ليغادروها عند المساء إلى منازلهم الكائنة في ضواحٍ بعيدة أو في القرى الواقعة على المضيق قرب البحر.
وفي قياس، قد تبدو الطريقة التي اعتمدتها غير دقيقة بالنسبة إلى علماء الرياضيات؛ لأني لم أستخدم إلا البوصلة وأقدامي، وبما أنني قست الخطوط الأساسية كلها، أي محيط المدينة والعديد من الشوارع في القسطنطينية والضواحي والمدن المتاخمة، لا أظن أنَّ الخطأ سيكون فادحاً، ولعلِّي أخطأت ببضع أقدام فحسب، لكن هذا الخطأ ليس بحجم الخطأ الذي يمكن أن أرتكبه لو اكتفيت بتحديد مساحة المدينة استناداً إلى الزاوية المقاسة من خارج الأسوار
هكذا بدأ نيبور سرد تفاصيل رحلته الاستكشافية المطولة التي بدأها من القسطنطينية متوجهاً بعدها إلى الإسكندرية، دمياط، الرشيد، القاهرة، السويس، جبل سيناء، والتي وصف فيها الطبيعة والجغرافيا والأقاليم، ونوعية الآلات التي تعمل على الماء والطواحين ومعاصر الزيت وآلات الزراعة وأفران النشادر وآلات تفقيس البيض، وكيف يقضي المصريون فراغهم من تسليات وتمارين وآثار. فقد ذكر جميع ما تمكنت عينه من مشاهدته، وحصله حسه الفضولي عن أهل مصر، ليعرِّج بعدها إلى جدة ثمَّ مخية ثمَّ بيت الفقيه، وبعدها إلى غلفقة والحديدة والزبيد والتحيتا والقحمة وهدية وإلى الجبال المنتجة للبن، وصولاً إلى عدن وجبلة وتعز وحاس، ثمَّ انطلاقة أبعد قليلاً نحو بومباي وسوارت في الهند، وصف فيها تجارة الشركة الإنجليزية للهند الشرقية، وسلطتها وتجارة موظفيها في مرافئ أخرى فيما وراء رأس الرجاء الصالح. وقد ذكر أيضاً أنَّ سكان جزيرة بومباي من أوروبين وكاثوليك مولودين في الهند أو برتغاليين مزعومين، وهندوس أو وثنيين، وفارسيين أو عبدة النار ومسلمين، ووصف بالتفصيل جزرها وسلطتها ومناخها وتضاريسها وجميع ما حصل عليه من تفاصيل سكانها.
بعدها انتقل إلى مسقط وبو شهر وشيراز وبرسيبوليس وتحدث عن الأكراد والتركمان البدو المقيمين هناك، وعن جيش الفرس الذي اجتاح البلاد، وقدَّم ملاحظاته عن بقايا قصر برسيبوليس وآثار المنطقة، ليتوجه بعدها إلى الخرج، وهي جزيرة خاضعة للهولنديين اندلعت فيها الحرب بينهم وبين الفرس. ثمَّ توجَّه إلى البصرة؛ فوصف المدينة وطريقة الحكم فيها، وسكانها، وموقعها القديم، وحرب قبيلة كعب العربية ضد الغفس والأتراك والإنجليز، ثمَّ ما بين قبيلة كعب وقبيلة منتفع، وسرقة بساتين البلح في البصرة، الدروب عبر الصحراء من البصرة وبغداد إلى حلب
ثمَّ تأتي قصة الرحلة من البصرة إلى بغداد عبر نهر الفرات، وقد وصف فيها مدن البلاد وقبائلها العربية، ووصف مسجد الشيعة الموجود في الرماحية، وبقايا الكوفة، ورحلته إلى ضريح حزقيال، وإلى الحلة ، ومشهد الحسين في كربلاء وضريح الحسين، والفرق بين السنة والشيعة، وتغيير ديانة هؤلاء تحت حكم نادر شاه. كما وصف في مدينة الحلة موقع حدائق بابل المعلقة، ومعبد بيلوز، ليتوجَّه بعدها إلى بغداد، وهناك وصف موقع بغداد القديمة، وضريح موسى كاظم، وأبي حنيفة مؤسِّس أحد مذاهب السنة. كتب أيضاً عن تجارة مدينة بغداد وتاريخها الحديث، وطريقة الحكم في هذه المنطقة، وسلطة الباشا، وقدَّم ملاحظات عن كردستان وأخرى عن المنطقة الخاضعة لحاكم بغداد وكيف يعيش البغداديون
بعد بغداد عرَّج إلى الموصل وقدَّم ملاحظاته عن ينشكا، الطاق، كركوك، التان، كوبري، أربيل، وذكر مبادئ اليزيدية التي يقال إنَّ أتباعها يتعبَّدون الشيطان، وملاحظات أخرى عن كرمليس والتقدُّم الكبير الذي أحرزه المرسلون الكاثوليك في هذه البلاد. كما وصف نيبور اللغة الكلدانية الحية المستخدمة في بعض الأحياء، وتحدَّث عن موقع مدينة نينوى، والطرق المختلفة بين الموصل وبغداد، وسكان الموصل وأسماء القرى التابعة لولايتها.
من الموصل الآن إلى ماردين، وهنا الكلام عن تحضيرات الشرقيين للسفر في الصحراء، ورحلة القوافل إلى منطقة كبيرين، وملاحظات حول أقاليمها وجميع تفاصيل الحياة فيها. وقد وصف أيضاً مدينة ماردين وحكَّامها وسكانها المختلفين، ولا سيما الشمسيين- وهم أتباع ديانة قديمة وضعوا أنفسهم تحت حماية بطريك اليعقوبيين.
وذكر الرحلة إلى حلب عبر ديار بكر التي وصف مدنها وطرقها، وأعطى لائحة عن أهم قبائل الأكراد والتركمان التي تهيم مع خيامها في أرمينيا والأناضول وسوريا، والمسافة بين مدن عدة في أرمينيا والأناظول. وقدَّم ملاحظات مهمة عن سوريا وأخرى عن سكان جبل لبنان، وأقسام هذه البلاد، ولغاتها المختلفة، وتحدَّث أيضاً عن السُّنَّة والمتاولة واليهود والمسيحيين. وكان للدروز نصيب آخر مهم من الوصف الدقيق لأصلهم وطبعهم ودينهم، وتحدَّث عن منازل النصيريين والإسماعيليين وديانتهم، وتاريخ الحكم عند الدرزو والتاريخ الحديث لهذا الشعب؛ إذ تحدَّث عن النبلاء منهم وقدَّم وصفاً جغرافيًّا لمنطقتهم، وسيطرة الموارنة على جبل لبنان، كما تحدَّث عن أمراء جبل لبنان المزعومين، ووصف منطقة كسروان ومجينة بيروت وأحياء طرابلس الخاضعة لولاية الباشا التي يسكنها المسيحيون.
يأتي الآن جزء آخر هو من أهم ما استكشف ودونت يدا نيبور، وهو رحلته إلى شبه الجزيرة العربية، ولن تسعنا أسطر هذا المقال للتنويه عمَّا قال، ولكن نذكُر أهمَّ ما قال: “عندما كنت في آسيا تلقيت خبر وفاة ملكنا، لكن العلماء لم يخسروا بخسارته، فقد أمرني الملك كريستيان السابع بمتابعة طريقي، وبنشر هذا الوصف لشبه الجزيرة العربية عند عودتي”.
تمَّ اختيار خمسة أشخاص لهذه الرحلة، وكُلِّفَ كلٌّ منَّا بمهمة تتعلق بالعلوم التي يختص بها، وكان البروفيسور فرديرك كرتيان فون هافن قد درس اللغات الشرقية، والبروفيسور بيار فورسكال التاريخ الطبيعي، واهتم طبيبنا الدكتور كرتيان شارل كرامر هو أيضا بالتاريخ الطبيعي، وكان على جورج غيوم بورنفند رسم وحفر المنتجات الطبيعية والمناظر والملابس، أما أنا فكان اهتمامي بالجغرافيا
انطلقت الرحلة كما كان يريدها الملك، من كوبنهاغن إلى تركيا، لنصل بعدها إلى الخليج العربي، التي عانيت فيها الكثير، فقد توفي جميع أفراد البعثة بالأمراض المعدية، وأصبت بالعديد من الأمراض حين عشت مع رفقائي على الطريقة الأوروبية، لكن حذوت لاحقاً حذو الشرقيين؛ فتعلمت كيفية التصرف في تلك البيئة الحارة القاسية، تذمرت، سلكنا طرقات خاطئة، وحصلت لي الكثير من المآسي التي لا يحتملها الأوروبي.
وفي طريق العودة تعرَّفت إلى التجار والعلماء غير الميسورين، ولا يتحادث المسلمون المهمون ورجال الدين منهم والمدنيون لكثرة أعمالهم، ويقضون ساعات طويلة مع مسيحي لا يتكلم لغتهم بطلاقة، كما تبين لي أن أصحاب المناصب هم الأقل اطلاعاً أو الأقل انفتاحاً. ونحن نتجرأ على طرح الأسئلة حول الديانة الإسلامية على التجار الذين اعتادوا التعاطي مع الأمم كلها وعلى العلماء أيضاً، ومن الطبيعي ألا يتقبل المسلمون أن يهزأ الغريب بديانتهم، وإذا ما تصرفنا بصدق واستقامة مع العرب، فسيبادلوننا بالمثل.
ونستنتج من هذه الملاحظات أنَّ العرب ليسوا همجيين وجشعين كما يروى عنهم، وقد يتمكن الأوروبيون من السفر في بلادهم، بشرط أن يتقيدوا بعادات العرب وتقاليدهم، ويزوروا المناطق العربية كافة باستثناء الحجاز. وتبقى اليمن من البلاد الأكثر أماناً، فسكانها مهذبون ويمكننا التنقُّل بأمان في مملكة الإمام كما في أوروبا. وإن كان المسافر مطلعاً على الطب فستفتح له هذه المعرفة أبواباً عدة، ولا يمنع المرء من التجوال في البلاد، خاصة إذا تمكَّن من عقد الصداقات مع السكان وإفادتهم من علمه؛ لأنَّ العرب لا يخجلون كالأتراك من التعلُّم من الأوروبيين. لا يجب أن يكشف المسافر عن هدفه دفعة واحدة، ولا ينبغي أن يتنقد كلَّ ما لا يعجبه، كما عليه ألا يحاول كسب ثقة العرب بالإطراء والتملُّق؛ لأنهم يحبون الصدق والصراحة
ينبغي على الأوروبي الذي يزور شبه الجزيرة العربية أن يهتمَّ باللغة أولاً، ويفضَّل أن يدرسها في أوروبا مسبقاً، لكن لا يظن أحدكم أنَّ فهم العرب يسهل حين نتعلم اللغة العربية في الكتب القديمة؛ فاللغة العامية تغيَّرت كثيراً، وقد حافظوا على الفصحى منذ ألف عام؛ لأنها بالنسبة إليهم هي اللغة الأجمل لأنها لغة القرآن. ولا يقتصر الأوروبي على تعلم اللهجات العامية، فلديه الكثير ليتعلمه في رحلة كهذه، فقد تعلمت أنا الكلمات والجمل التي تستخدم يوميًّا، وعدداً من الأمثال والحكم التي يعرفها الحكَّام وتجهلها العامة، وكتبتها في كتاب صغير، أرسلته إلى السيد ميكائيليس ورجوته أن يترجمه، وهكذا سيتمكن كلُّ من يقوم برحلة كهذه من التعود على لغة البلاد الحديثة التي لا تختلف كثيراً عن لغة القرآن، كما كان يبدو لنا
أتيحت لي الفرصة لأرى جميع مدن اليمن، ورسمت خريطة جيدة لهذه المنطقة، وحددت حدودها والأقطار التي تنضم إليها؛ كاليمن وحضرموت وعمان والأحساء ونجد والحجاز وغيرها، وتشتمل هذه البلاد الشاسعة على أراضٍ مرتفعة وخصبة، أمَّا السهول فهي قاحلة لأنها تفتقر إلى المياه، لكن في مواسم المطر تتجمَّع السيول في الجبال وتخصب جزءاً كبيراً من السهول، ودرجة الحراة لا تطاق فيها نظراً لارتفاعها الكبير
يا له من وصف دقيق لحياة شعوب وقبائل عرب شبه الجزيرة العربية ومسلميها! هي رحلة نادرة لكارستن نيبور الذي استطاع رصد أدق تفاصيل حياة رجل شبه الجزيرة العربية، فلم يكتفِ بوصف الأقاليم الجغرافية، كما جاء في عنوان الكتاب الثالث، بل وصف أدق تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية لديهم، من حدود شبه الجزيرة العربية ومناخها وعراقة العرب وسلالتهم وديانتهم وأطباعهم، وطرق تصرفهم في حالات القتل، ونظافة العرب وتحيتهم وطعامهم وبيوتهم وملابسهم، وقانون الزواج لديهم، وتعدد الزيجات، وآثارهم القديمة، والكتابة عندهم والعلم والشعر، والتوقيت الزمني الشرقي وعلوم السحر والتنجيم عندهم، والطب والذهب والزراعة والحيوانات التي يستأنسون بها. إنه جرد مفصَّل لحياة الرجل العربي الذي كان ولا يزال إلى يومنا هذا الشغل الشاغل لتفكير الغرب، كلما تطورت الحياة زاد الفضول لديه في معرفة كيف تطوَّر وإلامَ سيصل، وكلما هددهم الخطر اقتربوا منه لتحصين أنفسهم بثرواته وما تزخر به بلدانه من خيرات. إنه التاريخ يذهب ويعود ويتكرَّر ليبرز لنا في كل حقبة زمنية مكانة العرب عند الغرب عبر العصور.