1,001 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
لا أذكر في كلِّ ما قرأتُ في كتب الأدب القديمة التي حوت كثيراً من أشعار الأولين من الملوك والأمراء وغيرهم من فحول الشعراء من خصَّ أنجاله بقصائد فيها الحكمة والنصيحة والتهنئة والتاريخ في قصيدة واحدة، بل ولا أقل من ذلك، ولم أرَ حاكماً في هذه العصور المتأخرة من الذين قاموا بإنجازاتٍ كبرى كإنجازات سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، يخصُّ أنجاله بالقصيدة تلو الأخرى، وفيها ما فيها من النصيحة والحكمة والتعليم تصريحاً وتلويحاً من آنٍ إلى آخر، وهل سيبقى للتاريخ إلا هذه الإنجازات الخالدة والقصائد السائرة التي لا يمكن لأحد من هذا الوطن العريق أن ينساها، مثل هذه القصيدة التي رسمت البهجة على وجه الشعب الإماراتي وكل من يحب الإمارات وأهلها في العالم، وممّا يميّز هذه القصيدة أنها جاءت في شهر عظيم ومناسبة سعيدة ننتظرها منذ زمن، وكاتبها حاكم لم نرَ مثله من الحكّام، قضى خمسين عاماً في خدمة شعبه والعرب والمسلمين والإنسانية، وقاد بلاده إلى حضارة وتقدُّم لم تشهدهما دول كثيرة، حتى صار مضرب الأمثال في العالم العربي الذي يراه قدوته ومنجزاته منهاجاً لكل خططهم المستقبلية، في عالمٍ متقلّبٍ خطير لا يعترف إلا بالأقوى والمتجدد الذي لا يتوقّف.
في هذه الأيام المباركة والسعيدة على قلوبنا، تأتينا قصيدة استثنائية من زعيمنا المفدى أبي راشد، بمناسبة أفراح الشعب بزواج أنجاله الشيوخ الكرام، سمو الشيخ حمدان بن محمد آل مكتوم، ولي عهد دبي، وسمو الشيخ مكتوم بن محمد آل مكتوم، نائب حاكم دبي، وسمو الشيخ أحمد بن محمد آل مكتوم، رئيس مؤسّسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، حفظهم الله ورعاهم وبارك فيهم. وفي العادة لا ينشر الشيخ محمد شعره في شهر رمضان المبارك، فإن نشر فستكون قصائد فيها دعاء وتضرُّع وحكمة كهذي القصيدة التي بين أيدينا، والتي أظنه كتبها في ليلة عقد قران أنجاله، فجاشت قريحته وهو ينظر إلى نجوم السماء، والليل مطبق على الأرجاء، فيقول في مطلعها:
لــيــلُ الإمــــاراتِ أفــــراحٌ وألــحـانُ
وفـــي سـمـاها مــنَ الأنــوارِ ألــوانُ
فأيُّ ليلٍ هذا الذي بُدّلت ظلمته ووحشة صمته إلى أفراحٍ وألحانٍ، فيرسم لنا لوحةً نشاهد فيها الفرحة التي عمّت قصور آل مكتوم وآل نهيان وحكّام الإمارات وجميع بيوت شعب الإمارات الوفي المخلص، بل كل مكانٍ من هذه الدولة، أمّا سماؤها فقد مُلِئَت ألواناً من الأنوار من صفاء النفوس والبهجة والسرور، هذا ما يراه في السماء، أمّا في الأرض فقد:
بَــــدَتْ بـحُـلَّـتـها الـخـضـراءِ فـاتـنـةً
وقَـــــدْ تــفــتَّـحَ بــالــنُّـوَّارِ بُــســتـانُ
بدت للناظرين كأنها لابسة ثيابا (حُلّةً) خضراء من العشب والأشجار، فهي تفتن كلَّ من ينظر إليها، وإذا نظرت إلى رياضها فستجدها قد تفتّحت بالأزاهير البيضاء فرحاً بهذا الزواج الميمون، والنُّوار والأنوار جمع نَوْر، وهو الزهر، يقال أنورت الشجرة ونوّرت وأنارت إذا أزهرت.
وعندما نظر أبو راشد إلى الصحراء، وهو دائم النظر إليها ودراستها ويعرفها حقَّ المعرفة أكثر من أيِّ بدوي عاش فيها طيلة حياته، شعر بملامسة الريح لقلبه النبيل السعيد، فوصفها لنا بأدق وصف، وهي كانت كذلك ليلة الإعلان عن الزواج المبارك، فقد كانت:
والــرِّيـحُ سَـجْـسَـجُ والـبـيـداءُ قـافـيَةٌ
ربــوعـهـا بـجـمـيـلِ الــــوَردِ تــــزدانُ
فريحها معتدلة لا برد فيها ولا حر، يستمتع بها كل من تلاقيه، وهو يشعر بالسعادة تغمره، ويرفع نظره إلى الصحراء، فإذا هي قافية شعرية لا خلل فيها، تبهج الناظرين كما تطرب القوافي الأسماع، أمّا ربوعها فهي مزدانة مبتهجة بالورود في كلِّ مكان، ولو أنَّ فناناً كان مع شاعرنا الكبير يرسم ما يشعر به، لما استطاع أن يصل إلى بعضٍ من هذه اللوحة الرائعة التي صوّرها لنا سموه في مطلع هذه القصيدة الغالية على قلوبنا، وقد يسأل سائل: لماذا كلُّ هذه البهجة والأفراح؟ فكان الجواب:
وكيفَ لا وهيَ في عُرسٍ قدِ احتَفَلَتْ
بــأحــمـدٍ ثُـــــمَّ مــكـتـومٌ وحــمــدانُ
نعم، كيف لا تفرح ولا تكون مسرورة بهذه المناسبة، وهي تصادف عرس الأمجاد، عرس ثلاثة من الشيوخ الكرام الذين هم مستقبل الإمارات ومن أركان دولتنا، وبدأ بأصغرهم الشيخ أحمد، ثمَّ ابتدأ جملة جديدة، فقال: وكذلك مكتوم وحمدان، يحتفل الشعب، ليصح ترتيبهم حسب أعمارهم ومناصبهم، وهذا من جمال التوفيق وإحكام المعاني وترتيبها، ثمَّ يؤكد الشاعر المعنى بتوجيه أنظارنا إلى لوحة أخرى يراها ويقرّبها لنا، فيقول:
فَــكُــلُّ ركــــنٍ بــــهِ عــطــرٌ وأغــنـيَـةٌ
وكــــــلُّ روضٍ بـــــهِ روحٌ وريـــحــانُ
فكلُّ ركن به عطر نشمُّ فيه العطر الغالي النفيس لهذه المناسبة السعيدة، وكذلك في كل أركانها الأغاني فرحاً، أمّا الرياض فكلُّها فيها الروح والريحان، أي الراحة والرزق وبرد العيش، وقد وظَّف بوراشد هذه الآية في هذا البيت «فروح وريحان»، ليدلّ على الأيام السعيدة التي يعيشها ويعيشها معه شعبه التي هي:
أيَّــامُ أنــسٍ بــدَتْ تـجلي مـحاسنها
كـالـبَـدرِ والأنــجـمُ الـزَّهـراءُ نـيـشانُ
فكأنَّ محاسن الأيام لم تكن بهذه الفتنة والسحر حتى أعلن عن مناسبة قران الشيوخ، فأظهرت جميع مفاتنها، فهي مثل القمر وهو بدر في منتصف الشهر، وقد صادف نشر هذه القصيدة والقمر مكتمل بدر تشبه لياليه النهار من وضوح الرؤية للذي يسير فيه، ثمَّ بدأ جملة جديده ليأتي بوصف جديد لهذه الأيام، فقال: والأنجم الزهراء المنيرة علامة على هذه الأيام المؤنسة السعيدة على قلب كلِّ مَن أحبَّ هذه الأسرة الكريمة، آل مكتوم، لما بذلوه من غالٍ ونفيس من أجل رفعة دولتنا الحبيبة، ولأخلاقهم العالية التي توارثوها كابراً عن كابر، وجعلت إمارة دبي مهوى قلوب الناس من كلِّ حدب وصوب.
ولسحر حسن هذه الأيام المباركة السعيدة فكأنها:
تـاهَتْ علىَ الغيدِ في حلٍّ وفي حُلَلٍ
وانـحَـلَّ مــنْ حُـلَـلِ الـظـلماءِ مـرجانُ
ويستمرُّ سموه في وصف هذه الأيام، فجمالها تفخر وتتيه به على كلِّ غيداء جميلة تروع الناظر إليها في حلها وثيابها المكسية بالورود الجميلة، أمّا ظلام الليل فقد انحلَّ من ثيابه السوداء المرجان، وفيه إشارة إلى قول الله عز وجل في تشبيه الحور العين: «كأنهن الياقوت والمرجان»، في بياضهن وحمرتهن وجمالهن.
بعد أن وصف أبو راشد هذه الأفراح والأيام السعيدة، انتقل إلى وصف أنجاله الكرام الذين اجتهد في تنشئتهم لنفع الناس وحمايتهم والدفاع عنهم، والوقوف مع ضعيفهم، ومواصلة حضارة الإمارات، فقال في وصف بليغ مختصر:
أنـجاليَ الـصِّيدُ أبـناءُ الـعُلا درَجـوا
عـلَى الـشَّهامَة مُـذْ كـانتْ ومذْ كانوا
النجل هو الولد والناجل الكريم النجل، ولهذا اختصَّ الناس في هذه العصور الأخيرة أبناء الملوك والحكّام بالنجل؛ للدلالة على شرفهم ومكانة أسرتهم، ولهذا قال: «أنجالي»، ووصفهم بأنهم صيد، وهو جمع أصيد، ويعني في العربية الملك والأسد، وبه يصف الشعراء والعرب أشراف الناس وسادتهم، فيقولون: هم الصيد، وقول سيدي الشيخ محمد: «أنجالي الصيد» مدح بليغ لأنجاله الشيوخ، حفظهم الله، لأنهم أبناء العلا، تعوّدوا على الشهامة منذ صغرهم، ولو جمعتُ لكم الأخبار التي أعرفها عنهم لما كفتني صفحات من هذه الصحيفة، فكيف بوالدهم الذي أنشأهم على هذه الصفات الكريمة النادرة بين الأمراء اليوم، ولهذا يؤكّد هذا المعنى بقوله، وكأنه ينتقل من حديثه للناس إلى حديثه لهم، فيقول:
ربّيـتكمُ وســوادُ الـلـيل يـشـهَدُ لــي
كــمـا تُـرَبِّـي صـقـورَ الـجـوَ عـقـبانُ
هذا لا يحتاج إلى شهود يا أبا راشد، فكلُّ من رآهم في صغرهم، وأنا واحد منهم، يشهد لك أنك لم تتركهم لحظة، فهم تلاميذك الأنجاب الذين تخرّجوا في جامعتك الكبرى، وعلّمتهم علوماً يصعب على كثير من أبناء الأمراء الوصول إليها، نشهد على ذلك، وليس سواد الليل وسهرك على هذه التنشئة الصالحة فقط، حتى أصبحوا من أعمدة إمارة دبي ودولة الإمارات، وأنت أعظمُ مربٍّ ومعلمٍ عرفته في حياتي.
ثمَّ يتابع سموه وصف أسلوبه في تربيته لهم، فقال أيضاً مخاطباً أنجاله، لنتعرَّف نحن أسلوب التربية ونتعلَّم:
وصـغـتكمْ بـيـميني صَــوغَ ذي أدَبٍ
فــصـرتُـم الــيــومَ لـلـعـلياءِ فــرسـانُ
اختار الصياغة واختص اليمين، وعرّف بنفسه بأنه صائغ ماهر ذو أدب جم، خبير بالتربية، حتى أصبح أنجاله في مجال العلياء فرساناً يشار إليهم بالبنان، ثمَّ يعود ويؤكد المعنى الأول، ويفسّره:
عـلَّمتكُمْ أنْ تـكونوا فـي الـعلا شُهباً
تَـنْـقَضُّ إنْ عُـرِّضَـتْ لـلـضيمِ أوطــانُ
فقد علّمهم سموه أن يكونوا كالشهب في السماء، تحرق كلَّ من تسوّل له نفسه أن يعتدي على بلادنا أو أرضٍ لحلفائنا، كما تعلّم هو وأجداده النجدة والفزعة وحفظ حقوق الناس ودفع الطامعين، فأيُّ وصفٍ أبلغُ من هذا الوصف لهؤلاء الفرسان الذين يحتفل اليوم شعب الإمارات بزواجهم المبارك.
ثمَّ يبيّن أبوراشد أسباب حرصه على هذه التربية والتعليم، فقال:
وكــــان كــــل مـــرادي أن أجـهـزكـم
لـلـمـجد إذ كـــان لــلأجـداد مـيـدانُ
وهذا ما يقوم به الحاكم المخلص الذي يعرف أهمية تنشئة الأبناء على المجد وحبه والعلا والسعي خلفها، لتتواصل الأمجاد والإنجازات، كما فعل الأجداد يفعل الأحفاد، وهكذا تتواصل المسيرة المباركة، أمّا عن المنهاج الذي استخدمه في تعليمهم فيقول:
ومـنـهجي كـان فـي تـلقينكم وطـني
وحـب شـعبي فـحب الـشعب بـرهان
وكـــــان زايـــــد تــاريــخـا أدرســــه
لــكــم وأنــعــم بـــه لـلـمـجد عــنـوان
حـتى وصـلتم إلـى مـا كـنت أنشده
وأنــتـم الــيـوم لـــي فــخـر وتـيـجان
إذاً، حبُّ الوطن والشعب والتفاني من أجل رفعته وسعادة شعبه هو المنهج الذي انتهجه سيدي الشيخ محمد في تعليم أنجاله الشيوخ، واتخذ من سيرة الشيخ زايد نبراساً يضيء لهم الطريق، كيف لا وهو عنوان المجد كله، وبهذا التعليم والحرص الشديد على التعليم المستمر وصلتم إلى المكانة التي أصبحتم فيها فخراً لشعبكم وتيجاناً للأمجاد.
ثمَّ ينتقل إلى نصيحته لأنجاله فيقول:
وإذ وصــلــتـم مــواصـيـل الــرجــال
وفـي سـن الـرجولة تـأسيس وبـنيان
أي ها أنتم ذا وصلتم إلى منازل الرجال التي كنت أنتظرها وأعلمكم من أجلها، وفي هذه المنزلة يكون العمل والتأسيس والبنيان، فعليكم بعدم الدعة.
ثمَّ ينتقل الشيخ محمد إلى موضوع القصيدة التي بدأها بالأفراح والأنوار، فيقول عن هذا الزواج المبارك:
والــيـوم أكـمـل جـهـدي إذ أزوجـكـم
وبــالــزواج يــتــم الــديــن والــشـان
في هذا البيت وصية سموه لأنجاله بأنه يتم جهده في تربيتهم وتعليمهم بتزويجهم، ويذكرهم بعظمة الزواج، حيث يتم به الرجل دينه، ويكون له شأن بين الناس، وفيه إشارة إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوَّج العبد فقد استكمل نصف دينه، فليتقِّ الله في النصف الباقي».
ثمَّ يكمل سموه نصيحته البليغة، ويوصي أنجاله الكرام بزوجاتهم، وكأنه يذكرهم بحديث رسول الله: «استوصوا بالنساء خيراً»، فقال:
فـأكـرموا مــن لـهنَّ الـحق واحـترموا
زوجـاتـكـم فـالـهـدى بـــر وإحـسـان
ثمَّ ذكّرهم سموه بنهج آبائهم الكرام الذين عُرفوا بالسماحة والكرم والأخلاق الكريمة في معاملة زوجاتهم الأميرات، كالمغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، فقد كان هو والمجد صديقين متشابهين، فقال:
ولـتـلـزموا نــهـج آبـــاء لــكـم سـلـفو
فــجـدكـم راشــــد والــمـجـد أقــــران
ثمَّ لم ينسَ سموه أن يوصيهم بالناس الذين هم كذلك يحتاجون إلى الرعاية والإحسان، ويجب معاملتهم بالمعروف، وعليهم اتخاذ البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير وتبعدهم عن الشر، وهذه من أهم الوصايا التي يحتاج إليها كلُّ حاكم وأمير، فقال:
وعـــامــلــوا الــــنـــاس بــالــمـعـروف
وخذوا بطانة الخير إذ للخير أعوان
ثمَّ ينتقل سموه للتهنئة ومباركة الزواج، ويذكرهم بما علّمهم ورباهم عليه، وهو التعاون والتعاضد والتناصح فيما بينهم، حتى لا يدب الخلاف، وليس في الخلاف خير، فقال:
لـكـم أبــارك مــن قـلـبي وأنـصحكم
نـصـيـحة مـــن أب يــحـدوه إيــمـان
بـــأن تـكـونـوا بـقـلـب واحـــد أبـــدا
بــذاك يـمـتد طــول الـدهـر سـلطان
وأنا أنتهز هذه المناسبة لرفع أسمى التهاني والتبريكات لسيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، بمناسبة زواج أنجاله المبارك، والله يبارك فيهم وفي ذريتهم ويسدد خطاهم، آمين.