2,237 عدد المشاهدات
مدارات ونقوش(خاص)
لا يملك المتتبع لعلاقة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم مع الخيل إلا أن يقف عند محطات عدة تستحق التأمل والدراسة، ولعلَّ الخوض في أعماق ما كتبه سموه عن تلك العلاقة الضاربة بجذورها في قلب سموه مع ذلك المخلوق الرائع، في كتابه الثمين «قصتي»، تتيح لنا إمساك أطراف خيوط ذلك الشغف النادر؛ فسموه لا تفارق الخيلُ خيالَه، كيف لا وهي مصدر إلهامه الذي يحيل إليه جزءاً من أسباب عشقه للمنافسة على المراكز الأولى في شتى مجالات الحياة.
يقول سموه: «لديَّ طبيعة في شخصيتي لا أعرف مصدرها تحديداً؛ هل هي فطرية أم مكتسبة؟ لديَّ طاقة تنافسية عالية، التنافس مع الآخرين يجعلني أقوى وأفضل وأسرع وأكثر إصراراً.. لديَّ هدف دائم أن أكون في المركز الأول، فلا أسعى إلا إليه، حتى لو لم أدركه، لا أعرف هل الخيل وسرعتها وسباقاتها التي عشقتها منذ صغري أكسبتني هذه الصفة، أم أنَّ هذه الصفة الفطرية هي التي جعلتني أكسب سباقات الخيل وأكسب الكثير من سباقات الحياة». (قصتي: 128)
نشأة فارس
هذا الشغف الذي بلغ عند سموه درجة العشق المحفور في القلب، المتغلغل في شغاف الروح، يسرده سموه في أول قصصه مع الخيل، ولا يخفي أنه «الحب الأول» بالنسبة إلى سموه، إذ «لا يوجد فرق؛ الخيل الأولى والحب الأول وجهان لعملة واحدة بالنسبة لي». (قصتي: 75)
حصان والده «الصقلاوي».. بيئة الفروسية التي نشأ سموه عليها في بيتٍ جميعُ أفراده فرسان، حتى والدته، رحمها الله، التي كانت «تستطيع ركوب الخيل دون سرج»… لعلَّ تلك العوامل التي يمكن اختصارها بـ«النشأة» لها بالغ الأثر في اكتساب سموه تلك العلاقة العميقة مع الخيل. كما بين ذلك شيخ المعرة بقوله:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا
على ما كان عوَّده أبوه
وهذا ما نستشفه جلياً في حديث صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد عن خيله الأولى: «نشأت في بيئة تحبُّ الخيل.. نشأت في بيئة كانت تتناقل الكثير من المأثورات، يحكيها لنا الآباء ونحن صغار عند اجتماعنا بالليل حول النار في الليالي الباردة.. جاء في إحداها أنَّ الله تعالى لما أراد أن يخلق الفرس قال لريح الجنوب: إني خالق منك خلقاً؛ أجعله عزاً لأوليائي، ومذلة لأعدائي، وحمىً لأهل طاعتي، فقالت: افعل ما تشاء، فقبض من ريح الجنوب قبضة فخلق فرساً، فقال: سميتك فرساً، وجعلتك عربياً؛ الخير معقود بناصيتك، والغنى معك حيث كنت، وجعلتك تطير بلا جناحين». يسرد سموه كيف كان ينام مع الخيل، كيف كان يفهم لغتها ونظراتها.. كيف كان يكلمها وتكلمه فتتعانق قلوبهما وتستوثق عرى المودة معها، حتى أضحت مصدر شغفه وإلهامه ومحبته الأولى.
أدب الخيل
إنَّ المتتبع لحياة سموه الأدبية يلمح مدى تأثير الخيل حتى في نتاجات سموه الإبداعية، وهذا ما تعكسه الوفرة الوافرة من القصائد التي وصف فيها الخيل، وتغنَّى بأمجادها وأصالتها، وافتخر بأيامها وكرم نسلها.
ومن تلك الإبداعات التي امتلأ بها ديوان سموه الشعري يختار لكتابه «قصتي» رائعة شعرية من أجمل ما قال وقيل في العاديات الأصايل، وممّا جاء فيها:
حبْ الرِّمَكْ يجري بشراييني آحبِها وآحبْ طاريها
أقْسَمْ بها الرَّحْمنْ ف كتابهْ سبحانهْ إبعلمهْ مِسَوِّيها
العادياتْ الإسمْ للسُّورهْ حَلَفْ بها وهذا مِغَلِّيها
وفي الغاشيهْ آيهْ لمنْ فَكَّرْ والهينْ مذكورَهْ بتاليها
وما ينحلفْ إلاَّ ترىَ بغالي هوُ لي ذكرها وهوُ مِسَميِّها
إظهورها عِزْ وشرَفْ تالدْ وبطونها كَنْزْ إلمِحبّيِها
«أم حلج»
قصة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد مع الخيل لا تكاد تنتهي عِبَرها، والإضاءات التي يمكن أن تؤخذ جذوة منها يستمدُّ كلُّ أحد منها عِبَراً ومحطاتٍ يستظلُّ بها في معترك الحياة.
فرسه الأولى كانت «سودا» الملقبة بـ«أم حلج»، لم يعبأ سموه بمرضها، إذ كانت والدته الشيخة لطيفة من أعرف الناس بالعلاج بالأعشاب، ومن أعرفهم بالخيل، وهكذا بدأت رحلة سموه مع العناية بالخيل وتدريبها وهو في العاشرة من عمره.. ما أعظم الصحراء! كيف تصنع الرجال وتضفي على الحياة بريق العزة والشموخ! «كان ذلك أهم مشروع في حياتي، السباق بعد أربعة أشهر، وأحتاج لعلاج مهرتي وتدريبها ثلاثة أشهر.. ما زلت أذكر علاج مهرتي؛ لأنني واظبت على إعداده بنفسي ووضعه على قائمتها يومياً». (قصتي: 79)
إنَّ ملمح التوثيق لا يغيب عن ثنايا قصة سموه، ومن هنا تستوقفنا أنواع الخلطات التي كانت تتكوّن منها العقارات المستخدمة في علاج الخيل، والتي تتكوّن من «الحرمل والكركم والسدر وغيرها من المواد».
دروس أولى
تعلِّمنا قصة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد مع الخيل أروعَ ما يمكن للإنسان أن يكتسبه من كل شيء حوله؛ فالدروس التي استقاها سموه من الخيل تمثّل حكماً فياضة بالمعاني والعبر. يقول سموه: «تعلَّمت من هذه المهرة الجميلة الكثير؛ تعلَّمت كيف تستطيع إقامة علاقة حقيقية مع هذا الحيوان الجميل، علاقة صداقة ووفاء.. تعلَّمت كيف يمكن التحدث مع الخيل والتفاهم معها أيضاً.. تعلَّمت أنَّ الخير عندما تضعه في الخيل يثمر خيراً أكبر. علَّمتني خيلي الوفاء. علَّمتني خيلي الأولى أنَّ الإنجاز لا يأتي على طبق من ذهب.. تعلَّمت من خيلي أنه عندما تحب شيئاً واصل فيه حتى النهاية. عندما تريد إنجازاً أعطه كلَّك، لا تعطِه بعضك، إلا إذا كنت تريد نصف إنجاز أو نصف انتصار». (قصتي: 81)
السباق الأول
ما أجملَ تلك الأجواء التي يصفها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد قبل أيام من إقامة السباق الأول الذي حُفِرَ في ذاكرة سموه كما حُفِرَ عشقه الأول للفرس «أم حلج»؛ أجواء تعيدنا إلى الزمن الجميل الذي كان الناس خلاله منطبعين بالحياة البدوية الأصيلة؛ إذ لم تكن النهضة العمرانية والتكنولوجية قد أرخت بظلالها على حياة الناس. ولا مبالغة في القول: إنَّ القارئ لتلك الأوصاف لا يستطيع إلا أن يكرِّرَ التأمل مراراً وتكراراً لها؛ لما لها من جماليات الوصف لتفاصيل الاستعدادات التي تنم عن شيم الكرم والأصالة، وكأنها تنتقل بنا قروناً من الزمان إلى حيث يقف عنترة بن شداد وزهير بن أبي سلمى في سوق عكاظ يتحضران لإلقاء قصائدهما أمام الملأ. يقول سموه: «توالت أفواج الناس الذين حضروا من مناطق الإمارات كافة، وعندما شعرت عائلتي وشعب دبي بأسره بأنها دعوة عامة، قام كلُّ بيت بالطهي لأبناء القبائل القادمين لحضور الحدث، رجالاً ونساء، فجُمِعَت الحيواناتُ وذُبِحَت استعداداً للمناسبة، وكانت النساء قد أعددن العطور منذ أسابيع ليتطيَّب بها الضيوف بعد تناول الطعام، وكان الرجال الذين يقرضون الشعر يحضّرون قصائدهم ويتمرنون على إلقائها ويقومون بتشذيبها في «المجلس» لتقرأ على مسامع الزوَّار الشيوخ». (قصتي: 82)
لعلَّ البعد الإنساني الذي ربط صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بـ«أم حلج» كان له الدور الأكبر في رفعة قدر هذه الفرس وتتويجها بمركز متقدم برفقة خيول أبناء الشيخ راشد بن سعيد.
أعظم حصان
وبالانتقال إلى محطة سموه المستفيضة في كتاب «قصتي»، مع الحصان «دبي ميلينيوم» نرى أنها وقفة تعكس بكل وضوح عظم العلاقة التي تربط صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بذلك الحصان العريق الذي أضحى حديث العالم، والمنزلة التي احتلها عند سموه، فهي سردية مثالية تخوض في عالم الفروسية؛ بدءاً من الأحاسيس الفياضة تجاه ذلك المخلوق الوفي، والعلاقة التي يخالها القارئ وكأنه يتحدث عن أحد أبنائه أو رفقاء دربه، وانتهاءً بمكانتها واعتلائها منصات التتويج والفوز في أعرق السباقات العالمية. وما تخصيص جزأين للقصة لهذا الحصان إلا إشعار بالقيمة العظمى التي ربطت سموه بعملاق الخيول التي ملكها خلال مسيرة سموه الحافلة، حتى إن القارئ ليستشف حين يقرأ قصة نهاية هذا الحصان وكان سموه يروي سيرة أحد عظماء التاريخ: «ما زلت لم أفق من أجمل حلم عشته مع أجمل صديق وأعظم حصان في العالم». (قصتي: 289)
ورغم فيض المشاعر والأحاسيس التي تمتلئ بها قصة سموه مع ذلك الخيل الأسطورة، فإنها تمثّل إضافة إلى ذلك مرجعاً توثيقياً لما تحتله الخيول من مكانة في التراث العربي والإماراتي على وجه الخصوص، إذ يسرد سموه فيها خلاصة تجاربه في عالم الخيول الأصيلة، وما تمثله بالنسبة إلى العربي، وقيمتها ومكانتها لديه، والعلامات التي تعرف بها أصالتها وعلو قدرها: «العينان فقط تخبرانك الكثير. انظر إلى ما تنظر إليه الخيول، بعضها تجفل وتحرك ذيلها لمجرد رؤية أي شيء غريب مر من أمامها، وهناك خيول تبقى في مكانها وتحدق في الأشياء الغريبة بشيء من الفضول والتحدي، تخبرك نظرات الحصان ما إذا كان قائداً أو تابعاً.. العيون الواسعة عند الخيل هي كالوجه البشوش الصريح عند البشر، وتعبّر بوضوح عن الصدق والإخلاص. ولا يقتصر الأمر على حجم العيون، بل أيضاً بريقها ولمعانها وعمقها وكأنها محيطات لا تنتهي». (قصتي: 272)
طريقة «ميلينيوم»
إنَّ الحصان في سرديات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد النثرية والشعرية يمثّل بحراً زاخراً بالمعاني، فهو ميدانه الواسع الذي يعشق الخوض في غمار أوصافه، ولا يملُّ الحديث عن ميزاته وعجائب عالمه، وهذا ما يتراءى من خلال استقصاء سموه لأوصاف أسطورة السباقات الحصان المظفر «دبي ميلينيوم» في سرده لقصته معه: «كان «دبي ميلينيوم» حصاناً يحب الفوز، ولكن على طريقته، كان يسابق بالطريقة التي يراها هو مناسبة دون الاستماع كثيراً لمن يمتطيه. كان مختلفاً، ينطلق منذ البداية بأقصى سرعة، ويستمر متفوقاً حتى النهاية. لم يكن أبداً يحب الفوز بفارق بسيط.. كان يحب التباهي.. كان يكسر عزيمة منافسيه بقوة منذ البداية، بل كان يلغي وجودهم ويحطُ من قيمتهم بشدة لدرجة تقعدهم عن الجري كالسابق مرة أخرى.. لم يكن ينافس بطريقة الند للند، إنما كان يعشق الانفراد دائماً، كأنه يطلب من الأحصنة الأخرى اللحاق به، وكان ذلك يحطم قلوبها». (قصتي: 278)