3,379 عدد المشاهدات
يُشار إلى فترة السلطان عبد الحميد الثاني بأنها العصر الذهبي للتعليم في أواخر السلطنة العثمانية، فقد رأى في التعليم السبيل الوحيد لإنقاذ مستقبل الدولة العثمانية من السقوط، حيث قام باستثمارات هائلة في قطاع التعليم؛ فزاد عدد المدارس بنسبة 150%، أمّا عدد الطلاب فقد بلغ 900 ألف طالب.
كانت العشائرُ واحدةً من أكبر المشكلات التي واجهت الإمبراطورية العثمانية آنذاك، فقد غدت فرصة ذهبية للدول الاستعمارية التي كانت تتربَّص الدوائر للانقضاض على الإمبراطورية وتفكيكها، حيث وجدت مبتغاها في هذه العشائر عبر التغلغل إليها وتحريضهم على الدولة.
تنبَّه السلطان عبد الحميد الثاني إلى خطورة هذه المؤامرات التي كانت تحاك في منطقة الجزيرة العربية، فأصغى إلى مقترح والِيه على منطقة الحجاز واليمن عثمان نوري باشا بتأسيس مدرسة للعشائر طريقاً لحل هذه المعضلة، وإقحام أبناء وجهاء العشائر العربية فيها، وتوفير فرص تولي مناصب إدارية عالية لخريجي هذه المدرسة في تلك المناطق؛ لضمان سيادة الدولة على هذه العشائر. وبناءً على مقترح عثمان نوري باشا عُرِضَ الأمر في 23 يونيو عام 1892 على الصدر الأعظم، وتمَّت الموافقة على افتتاح هذه المدرسة في إسطنبول عاصمة السلطنة العثمانية؛ لإخراج أبناء العشائر العربية من ظلمات الجهل إلى نور العلم والمعرفة، ولتكون قدوة لافتتاح مدارس أخرى على غرارها في مناطق أخرى من السلطنة، فأُوكِلَ إلى عثمان نوري باشا وضعُ منهاج لهذه المدرسة، ونظامٌّ داخليٌّ أُعْلِنَ عنه في 29 من ذي الحجة عام 1309 في 12 مادة أجملت سياسة المدرسة وأهدافها، وتكون التبعية الفخرية للمدرسة إلى السلطان عبد الحميد. وقد تقرَّر قبول 50 طالباً في السنة الدراسية الأولى، و40 طالباً في الأعوام التالية، وتتولى دار الشفقة ووزارة المعارف نفقات المدرسة ودفع مرتبات شهرية للطلاب، وهي 30 قرشاً شهرياً.
وتكون مدة الدراسة خمس سنوات، وجاء المنهاج الدراسي على الشكل التالي:
*السنة الأولى: القرآن الكريم، الأبجدية، علوم الدين، الفقه، القراءة التركية، الإملاء، الحساب، والتدريب العسكري.
*السنة الثانية: القرآن الكريم، التجويد، الفقه، العلوم الدينية، حسن الخط، القراءة التركية، الإملاء، الحساب، اللغة، والتدريب العسكري.
*السنة الثالثة: القرآن الكريم، التجويد، العلوم الدينية، قصص الأنبياء، الصرف التركي، القراءة التركية، اللغة، الإملاء، حسن الخط، الحساب، الجغرافيا، الفرنسية، والتدريب.
*السنة الرابعة: القرآن الكريم، التجويد، العلوم الدينية، الصرف العربي، اللغة الفارسية، الكتابة التركية، النحو التركي، الجغرافيا، التاريخ الإسلامي، الحساب، حسن الخط، اللغة الفرنسية، الرسم، والعلوم المتنوعة.
*منهاج السنة الخامسة: القرآن الكريم، التجويد، العلوم الدينية، النحو العربي، اللغة الفارسية، التاريخ العثماني، القواعد العثمانية، الكتابة والقراءة التركية، المحادثة التركية، الجغرافيا، الحساب، الهندسة، حسن الخط، المعلومات المتنوعة، حفظ الصحة، أصول إمساك الدفاتر، اللغة الفرنسية، الرسم، والتدريب.
وقد أُجْرِيَت تعديلاتٌ طفيفةٌ على منهاج المدرسة عام 1316 و1321.
اختيار دقيق
أكَّدت الرسائل التي بُعِثَت إلى الولايات والسناجق والأقضية ضرورة توخِّي الدقة في اختيار الطلبة من أبناء وجهاء وزعماء العشائر والقبائل العربية والكردية والألبانية الذين يتميَّزون بالذكاء، وأن تكون أعمارهم ما بين 12 و16 عاماً، وتكونَ لديهم قابلية للتعلُّم، وكان مستوى التعليم في هذه المدرسة يضاهي المدارس الحربية (العسكرية) والملكية (السياسية).
اُفْتُتِحَت مدرسةُ العشائر في 4 أكتوبر عام 1892 الذي وافق يوم المولد النبوي الشريف، في قصر أسما سلطان بمنطقة قبطاش في الشطر الأوروبي من إسطنبول، بكلمة افتتاحية باللغة العربية لوزير المعارف زهدي باشا، وفي 15 ربيع الأول عام 1310هـ الموافق 6 أكتوبر عام 1892 تمَّ تعيين مدير المدرسة السلطانية علي ناظم بك أوَّل مدير للمدرسة.
تمَّ استقطاب الطلاب من الولايات العربية وبلاد البلقان والولايات الكردية، وتكلَّفت الدولة بنفقات جلب الطلاب إلى مقر المدرسة في إسطنبول برفقة ضبّاط من الجيش والدرك. وقد زُوِّدَت المدرسةُ بمشفى وصيدلية، وأُحِيطَت بحراسة أمنية.
يلتحق الطلاب الخريجون من مدرسة العشائر بالصف الخاص في المدرسة الملكية والحربية، وبعد إتمام الدراسة فيهما ينال المتخرّجون شهادة التخرُّج، ويتمُّ توظيفهم في الخدمات العامة برواتب معينة إلى أن يبلغوا سنَّ 25، فيتم توليتهم مديرين للنواحي، وقائمي مقام للأقضية، أمّا خريجوا الحربية فكانوا يُمْنَحون رتبةَ ملازم ثانٍ ونقيب، والمرافقة الفخرية للسلطان، ويتمُّ تعيينهم في التشكيلات العسكرية في بلدانهم.
محاولة تشويه
لقي افتتاح مدرسة العشائر صدىً في الصحف الأوروبية الصادرة آنذاك، مُحاوِلة تشويه صورتها وقد واجهتها السلطات العثمانية بمنع تداولها داخل حدود الدولة.
لم تدُم المدرسة طويلاً؛ ففي شباط عام 1907 تقرَّر إغلاق مدرسة العشائر على إثر تمرُّد طلابها ورفضهم الأطعمة المقدّمة لهم، وقد سبقت ذلك قلاقل واضطرابات بين الطلاب الأكراد والعرب وانفجار قرب المدرسة.
قد لا يُسْتَبْعَدُ أن يكونَ هناك أيادٍ خارجية عابثة امتدت إلى المدرسة لإحداث الاضطرابات، للحيلولة دون الوصول إلى أهدافها المبتغاة من تعزيز سيادة الدولة في مناطق أطماع الدول الاستعمارية.
ونتبيَّن ذلك من تتبُّع الصحف الغربية الحثيثة لأخبار المدرسة؛ فقد أشار التقرير الذي أرسله عميل السلطان عبد الحميد الثاني في فرنسا المدعو Emillofolon بناءً على ما نُشِرَ في الصحف الألمانية والنمساوية إلى إغلاق مدرسة العشائر التي تأسَّسَت لتعزيز الجامعة العربية؛ بسبب تمرُّد طلابها وعدم انتظامهم بعد أن أُنْفِقَت عليهم مبالغ كبيرة.
كانت مدرسةُ العشائر تجربةً فريدةً أقدم عليها السلطان عبد الحميد الثاني، بغية تعزيز أواصر دولة متهالكة تكالبت عليها الأطماع الغربية، ولم تكن عديمة الإنجازات، فلقد لعبت دوراً في صون البلاد في بعض المناطق برهة من الزمن، وقد شكَّلت هذه التجربة نموذجاً للدول العظمى التي عملت على تدريب قادة دول أخرى وإعدادهم، لتوليتهم مناصب عليا في بلدانهم؛ بهدف توسيع مناطق نفوذهم لأغراض استعمارية، فلو كانت تجربة الدولة العثمانية هذه في عهود قوتها لكانت النتائج أكثر إيجابية. استمرَّت مدرسة العشائر 15 عاماً، واحتلَّت مكانتها في صفحات التاريخ كمبادرة فريدة من نوعها، وقد أُغْلِقَت المدرسةُ في عام 1907، وتحوَّل بناؤها إلى مدرسة إعدادية.