1,865 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
“الرمسة” كلمة تلفت نظر من يسمعها من إخواننا العرب والخليجيين، وذلك لأنهم لا يعرفون معناها، ولم يبحثوا عنها في المعاجم اللغة العربية القديمة، ليعلموا أنها فصيحة، وأنها ليست من أخطاء العوام، وليست مستوردة من خارج المنطقة كما يظن آخرون. تطوَّرت مع تطوُّر اللهجات بعد تغيُّر ألسن العرب الأقحاح، فلم يعودوا يتوارثون الإعراب- حركات الكلمة- وصارت جملهم مبنية على السكون كحال جميع العرب اليوم؛ لأنَّ العوامل النحوية مؤثرة بطبيعتها، كالمبتدأ والخبر، وكان وإنَّ وأخواتهما وغيرها التي حفظت لآلاف السنين في لسانهم العربي، وأرضعته الأمهات العربيات لأبنائهن وبناتهن، فتكلموا بفصاحة سليمة عبر قواعدَ وُلِدوا بها وحفظوها، كما نحفظ نحن لهجتنا العامية، فنحسن أساليبها، وننتقد من يكسر قواعدها، ونعلِّم أبناءَنا النطقَ الصحيحَ لها، لكي لا يكونوا سخرية لأحد من الناس في منطقتهم، وكذلك كان العرب في عصر ما قبل الإسلام وبداياته.
“رمستنا الإماراتية” هي من روائع لهجتنا المحلية، التي هي الابنة البارة لأمها اللغة العربية الفصحى، فقد حافظت على مفرداتها وأساليبها، وسنذكر لكم بعض الشواهد التي تدل على روعتها وجمالها.
أذكر أنني كنت أطالع في بداية طلبي للعلم كتاب “أدب الكاتب” لابن قتيبة الدينوري (213-276 هـ) رحمه الله، وقرأت كلمة (الخبط) فسألت مباشرة جدتي –رحمها الله- عن هذه المفردة؛ فقالت: الخبط (بسكون الباء) يستخدمه أهل الغوص، فقلت: ليس ذلك ما أعنيه إنما أسألك عن (الخبَط بفتح الباء) الذي في البر، فقالت: هو أن يضرب الراعي بعصاه الشجر، فما تساقط من الورق فنسميه (خبَط)، فلما قرأت ماسطَّره ابن قتيبة ذهلت لأنه نقل كلامها، وكأنه أخذه عن أعرابي في زمنه، حيث قال: “الخبَط مصدر خبطت الشيء خبطاً، والخبَط ما سقط من شيء تخبطه، من ذلك خبط الإبل الذي توجره (تبتلعه)، إنما هو ورق الشجر يخبط فينتثر”، فقلت: سبحان الله! فصاحة أهلنا في الإمارات لم تنقطع كل هذه القرون الكثيرة، وإنما ينقصهم قواعد النحو فيعودون إلى أصل لغتهم الفصيحة.
وفي موقف آخر، كنت في مجلس أقارب لي من الشيوخ الطاعنين في العمر فقال أحدهم: إنَّ فلاناً سبَّ فلاناً، فردَّ عليه أحدهم وقال: لم يسبه بل نضحه، فبحثت عن كلمة (نضح) في معاجم اللغة العربية فوجدت المعنى الذي كان يدور حوله الكلام مطابقاً للمعنى نفسه الذي كان يتكلَّم به العرب الأقحاح، فيقول الفيروز أبادي في قاموسه: “أنضح عرضه: لطخه”، وجاء في لسان العرب: “أمضح عرضه وأنضحه إذا أفسده”، فلما قرأت هذا عجبت أشدَّ العجب من فصاحة هؤلاء الشيوخ الكبار، الذين أعدُّهم مرجعاً مهمًّا للهجتنا الفصيحة، فقد قام هذا الشيخ بتصحيح مفردة “سب” لمعنى أكثر دقة للموضوع المثار، فقال: “نضحه” وهذا من روائع “رمستنا” التي يجب أن نحافظ على دقتها ووصفها العميق؛ لأنَّ بقاءَها بقاءٌ للغة العربية الفصحى. وقد ظهرت اللهجات العربية بعد انهيار قواعد اللغة العربية الفصيحة، وابتعاد الناس عن هذه القواعد التي توارثوها منذ قديم الزمان، وحافظوا عليها عندما كانوا يعيشون في مجتمع مغلق في صحراء موحشة حتى جاء الإسلام، وأظهر الله دينه وانتشر في الأصقاع، وخرج العرب الفصحاء في الجيوش الإسلامية، وعاشوا في بلدان مزجتها أعراق شتى، ودخلت في دين الله أفواج المؤمنين، فخالطوا العرب الأقحاح، فتمَّ هدم القواعد واختلت السليقة الصحيحة، وانقطع الإعراب إلى الأبد، وهي حركات العوامل اللغوية من فاعل ومفعول ومبتدأ وخبر وغيرها، فلما رأى العلماء ما أصاب لغتنا هرعوا لوضع قواعد الفصحى، وتقسيم هذا العلم العظيم إلى نحو وصرف وبلاغة، لتعليم العرب والمسلمين لغتهم ولغة دينهم، فوا أسفاه على لغتنا العزيزة التي ضاع أكثرها، ولم يبقَ إلا ما دونه علماء اللغة في القرون الأولى، وورثت اللهجات المحلية من المغرب حتى عمان الفصحى، واحتفظت بمفرداتها دون إعرابها، وأدخلت عليها مفردات أخرى كثيرة من محيطها الذي وُلِدَت فيه إمَّا من باب المجاز، وهو الغالب عليها، أو من تأثير الدول المجاورة الأعجمية، أو بسبب الاستعمار الأوروبي في العصور الصليبية وفي العصر الحديث.
في أحد الأيام ناقشني أحدُ المغردين الخليجيين في “تويتر” عن مفردة نستخدمها في لهجتنا وهي تسميتنا لغطاء الرأس “سفرة”، فضحك مِنَّا وقال لي: لِتَقُلْ شماغ أو غترة، أما السفرة فهي سفرة الطعام! فقلت له: أخبرني ما معنى الغترة والشماغ إن كنت من العالمين؟ فحار في جوابه ولم يجد لها معنى، فأخبرته أنَّ الغترة أصلها “قترة” وهي قترة الصائد الذي يختبئ فيها ولا يمكن أن تكون بمعنى غطاء الرأس لأنها حفرة، أمَّا الشماغ فهي كلمة أعجمية لم أجد لها أصلاً واحداً وبعضهم يقول إنها تركية من “ياشماك” بمعنى الخمار، وقد أدخلت في المعجم الإنجليزي منذ حقبة طويلة، ولكني أشك في أصلها، وهي مفردة مستخدمة في الجزيرة العربية ولم يعبها أحد، فكيف تعيب السفرة وهي أقرب كلمة للعربية؟! فقال لي: كيف ذلك؟ قلت له: يقول أصحاب المعاجم العربية: إنَّ السفرة التي يأكل عليها سميت سفرة؛ لأنها تنبسط إذا أكل عليها، وعلى هذا فمفردتنا الإماراتية فصيحة، وغترتكم وشماغكم غير فصيحتين، فما كان من هذا “التويتري” المجادل إلا أن انسحب بصمتٍ ولم يجادلني بعدها.
تحتوي لهجتنا الإماراتية على نسبة عالية من المفردات الفصيحة التي ذُكِرَت في المعاجم اللغوية ولا يستخدمها أهلنا في باقي دول الخليج العربي، ولهذا إذا سمعوا مفردة ليست في لهجتهم أنكروها وقالوا إنَّ لهجتكم غريبة، وبعضهم يتمادى ويقول: أنتم أبعد الناس عن الفصاحة! ونردُّ عليهم بأننا فصحاء جدًّا ولديَّ أمثلة كثيرة على ذلك لا تسعها هذه المقالة، ووجدت أكثر مَن ينتقدون قولنا: “نرمس مع فلان” وهي مفردة موجودة في العربية واستخدمها أهلنا قديماً للكلام الخاص بين اثنين أو مجموعة وبصوت خفي، ثمَّ جاء الجيل الحديث ولم يفرقوا بين الرمسة والكلام فجعلوا الرمسة لكل كلام، وهذا كما تعلمون جائز في تطوُّر اللغات. يقول صاحب لسان العرب: “الرمس الصوت الخفي ورمس الخبر إذا كتمه” وهذا هو المعنى المستخدم قديماً، وقد أضيف عليه أنَّ الرمسة تكون ليلاً، حيث يجتمع الناس فيسمرون، وقد يكون أصلها من الطيور الروامس وهي تطير ليلاً، وهذا أيضاً من باب المجاز الذي اشتهرت به جميع اللهجات العربية.
علينا أيها الأعزَّاء ألا ننتقدَ أو نعجبَ أو نسخرَ من أيِّ لهجة عربية؛ فقد تكون هي الصواب ولهجتنا هي الخطأ، وعلينا أيضاً التأكُّد من معاجم اللغة العربية قبل الوقوع في الانتقاد الذي لا يجوز، ونحن جميعاً نحملُ الهُوِيَّةَ العربيَّة.