2,226 عدد المشاهدات
الكاتب: خليل البري
بعد نحو شهرين من وصولي إلى الدولة، «في 21 نوفمبر 1975م»، حيث عملت محرراً صحافياً في جريدة «الوحدة الظبيانية» في اليوم التالي للوصول، اختارني السيد راشد بن عويضة، صاحب الجريدة، رئيس التحرير، لفتح أول مكتب للجريدة في إمارة دبي، التي لم يكن بها أي صحيفة يومية آنذاك. وكان يومها المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، الذي كان آنذاك، نائباً لرئيس الدولة، رئيساً لمجلس الوزراء، حاكماً لدبي، قدم عرضاً للصحف المحلية – وكلها في إمارة أبوظبي – «الاتحاد، الوحدة، الوثبة، الفجر وصوت الأمة»، يتضمن العرض حزمة من التسهيلات، في حال افتتاح مكاتب لها في الإمارة، تتضمن تقديم المكتب والسكن لموظفي الصحف المذكورة، الذين يأتون إلى دبي. وكانت تلك التسهيلات من الأهمية بمكان، نظراً لأزمة السكن، وارتفاع الإيجارات، التي تعاني منها البلاد آنذاك.
في مجلس الشيخ
في مطلع العام 1976م، قدمت إلى دبي، ومعي رسالة إلى المغفور له الشيخ راشد من صاحب «الوحدة»، يفيد فيها بترشيحي مديراً لمكتب الجريدة في دبي.
وفي اليوم التالي، أقلتني سيارة أجرة إلى حيث يوجد نائب رئيس الدولة في مكتبه «الديوان» حالياً، في منطقة الجمارك في بر دبي. لا أكتمكم سراً، أنَّ شيئاً من الشعور بالرهبة انتابني، رغم ما أتميّز به من جرأة في تناول الموضوعات ومعالجتها، إبّان عملي في بلاط صاحبة الجلالة، والذي يمتد إلى ما يقرب من نصف قرن، «منذ العام 1971م، بداياتها في بلدي الذي أحمل جواز سفره (سوريا)، ومنذ العام 1975 حتى اليوم، في بلدي الذي أفنيت فيه ثلثي عمري، وأفتخر بالانتماء إليه فكراً وروحاً وجسداً، دولة الإمارات العربية المتحدة».
كيف لا ينتابني هذا الشعور، وأنا أعد خطواتي إلى مجلس نائب رئيس الدولة، حيث سأقابله، دونما وعد أو ترتيب مسبق، مع مدير مكتبه آنذاك حميد بن دري، أو أحد نائبيه محمد بن ضاحي، وعلي بالرهيف.
عند باب «المجلس»، كان ثمة أحد عناصر الشرطة، واقفاً دونما سلاح بيده، إلا مسدساً كان على جانبه الأيمن، وعندما قلت له إني أريد مقابلة الشيخ راشد، لم يسألني ماذا تريد منه؟ وبكل بساطة، ترافقها ابتسامة هادئة قال: تفضّل، الشيخ يجلس هناك. وأشار لي بيده، إلى حيث يجلس نائب رئيس الدولة بين عدد من مستشاريه وكبار موظفيه، وضيوف آخرين من مواطنين وغيرهم.
كان رحمه الله، يحمل غليونه «المدواخ» بيده، وعندما رآني مقبلاً عليه، طلب ممّن كان يجلس إلى يمينه أن يخلي مكانه، لكي يجلس ضيفه «الطارئ»، الذي أمّ مجلسه دون موعد، أو حتى اتصال مع مكتبه، عرفت لاحقاً أنه الأستاذ كمال حمزة الحسن، مدير بلدية دبي، وكان يحمل بيديه كومة من المخططات والأوراق ليعرضها على سموه، وعرفت كذلك لاحقاً، أنَّ من بين الحضور، كان الحاج سعيد لوتاه، رجل الأعمال، ومؤسّس بنك دبي الإسلامي، وسيف وعبدالله الغرير، وحمد الفطيم وعبداللطيف السركال، وحميد الطاير، وناصر راشد لوتاه، وناصر صالح لوتاه وغيرهم.
كنت هناك
بعد أن قدّم لي «المقهوي» القهوة، سألني، رحمة الله عليه، عن حاجتي، فأجبته أني أحمل رسالة لسموه من صاحب جريدة «الوحدة»، وسلمتها له، فما كان منه إلا أن أخرج نظارته الطبية من جيبه، وراح يقرأ الرسالة، وما إن انتهى منها، حتى قال للخادم: «ازكر حميد»، أَيْ «نادِ على حميد»، يقصد حميد بن دري، مدير مكتبه، وسلمه الرسالة قائلاً: «شوف الريال، (أي الرَّجُل) شو يبغي»، وأكرموه.
هكذا بكل بساطة وتواضع وسهولة، لا يلمسها المرء حتى في بيته، قابلت الرجل الذي بنى مع القائد زايد، تغمدهما الله بواسع رحمته، أعظم تجربة وحدوية ناجحة في التاريخ العربي المعاصر، راحت تزاحم العالم المتقدم على الدرجات الأولى، وأكدت حضورها المتميز على الصُّعد كافَّة، اقتصادياً، سياسياً، تعليمياً وتقنياً.
وعندما عدت إلى مكتبي، كتبت عن هذه الواقعة زاوية بعنوان «كنت هناك»، ما زلت أحتفظ بنسخة منها، رغم مرور نيّف وأربعين عاماً على ذلك، قلت فيها:
«… ما كنت أظن أني سأقابله بهذه السرعة، وتلك السهولة، فقد عودنا المسؤولون على إجراءات معينة ينبغي اتباعها إذا ما أردنا مقابلة أحدهم لقضية مهمّة، وحساسة، تقتضي السرعة، غير مبالين بما يمكن أن تحدثه تلك الإجراءات من تأخير تفقد الحدث قيمته الصحفية.
ذهبت وفي خلدي تساؤلات عدة، هل أستطيع مقابلته للمرة الأولى؟ وهل يؤخرني الروتين المتبع عن القيام بمهمتي؟!
طبعاً.. توقّعت أن يكون هناك شيء من هذا القبيل، وخاصة أنَّ الرجل الذي أقصده، هو نائب رئيس الدولة، حاكم دبي، سمو الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم. مررت أمام حرس الباب الرئيس، وتوقعت أن يسألني أحدهم، إلى أين؟ ومن تريد؟ ولكن لم يحدث شيء من توقعاتي، فظننت أنني أخطأت المكان، إذ كيف يدخل صحافي على قصر الحاكم، دون أن يسأل عن مبتغاه؟
أعرف في بعض الدول العربية أنَّ الشارع الذي يوجد فيه مكتب الرئيس، أو قصره، لا يمكن أن يمر منه إنسان، ما لم يسأل مرات عدة، عن وجهته وقصده. وإذا ما استطاع الوصول إلى مدير مكتبه، أو سكرتيره، فلينتظر الساعات الطوال، وإذا لم يوفق في اليوم الأول، فليحضر في اليوم التالي.. وهكذا.
وعندما صعدت إلى حيث مجلس سموه سألت شرطياً يقف هناك، أين يمكنني مشاهدة سمو الشيخ راشد؟ فما كان منه إلا أن فتح باب المجلس ودعاني إلى الدخول، هكذا، ومن دون استئذان، ومن دون المرور على مدير مكتبه، أو سكرتيره، أو حتى إعلامه مسبقاً.
وفوجئت بالعديد من المواطنين يشاركونه المجلس، وهو بينهم، يحدثهم ويستمع إليهم كأب، أو كأخ أكبر.
إنها صورة لنوع جديد من العلاقة بين الحاكم والشعب، وبين الحاكم والصحافة، نهديها إلى بعض المسؤولين في المستويات الوظيفية الأقل، الذين لم يتمكّنوا حتى الآن من معرفة دور الصحافة في المجتمع، فيعطونها الاهتمام الكافي..».
حقيقة لا أدري إن كانت هذه المقالة وغيرها ممّا كتبته خلال فترة عملي القصيرة في صحيفة «الوحدة»، مكتب دبي، سبباً في عرض قدمه لي الأستاذ عمر الديسي، رئيس تحرير مجلة «أخبار دبي»، آنذاك، للعمل في المجلة، حيث كنت ألتقيه في بعض الأنشطة الصحافية والإعلامية، التي تقام في دبي، وكانت «اقتصادية» في معظمها.
وعندما سألته عن سبب اختياره لي دون غيري، أجاب، نحن في «أخبار دبي» بحاجة إلى صحافي نشيط، ومن خلال متابعتي لما تكتبه في صحيفة «الوحدة»، وجدت فيك مبتغاي.
وبعد أسابيع وجدت ذاتي في مجلة «أخبار دبي»، إلى جانب كوكبة من الزميلات والزملاء، يعدون على أصابع اليد الواحدة، أذكر منهم المرحومان مأمون عطية ومحمد نوراني، في التحرير، وكذلك محمد مختار حسين وتاج السر أبوسوار «عمل حتى فترة قريبة في البيان»، وإلياس مصلح، والسكرتيرة فدوى اليوسف، وموظفة الأرشيف منارس العبيدي، والمصور الرائع تالوار، الذي كان شريكي في كل موضوعاتي الصحافية.
لقد كان انتقالي إلى «أخبار دبي» بمثابة مرحلة التأسيس والتمكين لمسيرة عملي في بلاط صاحبة الجلالة، في دولة الإمارات العربية المتحدة، التي لمّا تزل مستمرة حتى اليوم.. وللحديث بقية.