نسائم السادس من أغسطس

مجلة مدارات ونقوش – العدد 7

 1,092 عدد المشاهدات

الكاتب: علي عبيد الهاملي – كاتب إماراتي
 
 
 

كان صوت محرّك السيارة يعلو ويهبط وهي تشقُّ الطريق الرملي الذي يضيق ويتّسع بين فينةٍ وأخرى، بينما الفتى ذو السنوات العشر يأخذ مكانه وسط مجموعة الرجال الذين جلسوا في صفين متقابلين، يمسك بعضهم بالأنابيب المتعامدة خلف ظهورهم، ويمسك البعض الآخر بالحبال المتدلية فوق رؤوسهم، أمّا هو فقد كانت يده أضعف من أن تمسك بالأنبوب الذي خلفه، وأقصر من أن تصل إلى حبل متدل من سقف السيارة؛ لذلك اتّخذ مكانه في مؤخرة السيارة ممسكاً بالباب الخلفي المغلق بإحكام. كان الزمان أواخر الستينيات من القرن الماضي، وكانت القافلة المكونة من ثلاث سيارات «لاندروفر» ذات دفع رباعي متجهة من دبي إلى أبوظبي، حيث لم تكن الطرق المعبّدة قد عُرِفت بعد بين إمارات الساحل المتصالح، وكانت الرحلة من إمارة إلى أخرى سفراً تُعَدُّ له عدَّته، وتُحْسَبُ له مخاطره؛ فإذا كان الطريق محاذياً للبحر، تحكَّمت حركة المد والجزر في حركة المرور، أمّا إذا كان الطريق ممتدا في الصحراء، كهذا الذي تسلكه قافلة الفتى بين دبي وأبوظبي، فإنَّ أهمَّ شرط هو أن يكون سائق السيارة خبيراً بمسالك الطرق، وحبّذا لو تحرّك المسافرون في قافلةٍ من سياراتٍ عدّة؛ إذ كثيراً ما وردت الأخبار عن سيارات ضلّت طريقها، وانقطعت بركابها السبل في الصحراء دون ماء ولا طعام، فكان مصيرهم الموت والهلاك عطشاً وجوعاً.

     
الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان
الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان


 
 

ينشغل الفتى الصغير حيناً بصوت محرّك السيارة، فإذا ما أحسَّ بالملل من هذا الصوت الرتيب يمَّم شطر وجوه الجالسين في السيارة، وفي حركة سينمائية كان يركز عدستي عينيه على وجه من الوجوه في لقطات مقربة، عرف فيما بعد  أنها تسمّى «الزووم» بلغة التصوير، فإذا بهم مجموعة من الرجال، تتراوح أعمارهم بين العشرين والسبعين، هو الفتى الصغير الوحيد بينهم. ينتهي من استعراض الوجوه، فيبحث عن وسيلة أخرى يكسر بها حاجز الملل الذي يجد طريقه سريعاً إلى نفوس مَنْ هم في مثل سنّه، فيبدأ بالإصغاء إلى الحوار الذي يدور بين رفقاء السفر الذين بدؤوا رحلتهم منذ الصباح الباكر، فإذا به أكثر متعة من صوت السيارة وتأمّل الوجوه، بعضه حديث ذكريات لا يخلو من الطرافة، أمّا أغلبه فيدور حول المعاناة التي كابدوها قبل ظهور النفط، وشظف العيش، والمخاطر التي واجهوها في طلب الرزق، إضافة إلى قسوة المناخ وشحّ المياه وموات الأرض.

 تقترب السيارة من منطقة وعرة، فيدعوهم السائق إلى التشبُّث جيداً بأماكنهم، حيث سيضطر إلى زيادة السرعة كي لا تغرز السيارة في الرمل. يسود صمت قصير خلال فترة تجاوز هذه المرحلة من الطريق، وبعد أن يعبرها السائق بمهارة، يعود الحوار الذي انقطع فيقول أحدهم: “السيارة التي تقلّنا نعمة من نعم هذا الزمان؛ فالمسافة التي سنقطعها اليوم بين دبي وأبوظبي في ست ساعات أو سبع كانت تستغرق منّا في الماضي أياماً على ظهور الإبل، أو في بطون السفن”. يهدأ صوت محرّك السيارة ويبدأ السائق في التقليل من سرعتها بعد أن يلوح أمامهم “كشك” خشبيٌّ صغيرٌ فيبادر أحد الركاب قائلاً: “ها نحن نقترب من “سيح الشعيب”، وها هو مركز الجوازات أمامنا. سلموني جوازات سفركم وسأقوم بختمها وإنهاء إجراءات الدخول كي لا نتأخر”.  تصل السيارة إلى نقطة الجوازات في منطقة الحدود بين الإمارتين المتجاورتين، فيترجل الجميع منها ريثما ينتهي زميلهم من إتمام إجراءات الدخول، في الوقت الذي يقوم فيه موظف الجوازات بالتدقيق عليها وعلى الوجوه، قبل أن يقوم بختمها. دقائق تستغرقها هذه العملية، ثمَّ يعود الجميع إلى أماكنهم ليواصلوا رحلتهم إلى أبوظبي، تلك الإمارة التي بدأت عهداً جديداً منذ ما يقارب العامين.
كان اسم حاكمها الجديد يتردَّد على كلِّ لسان، فلا حديث للناس سوى «الشيخ زايد» الذي جاء ليغيّرَ مسار الأحداث في السادس من شهر أغسطس عام 1966م، ذلك اليوم الذي أطفأ فيه زايد لهيب ذلك الصيف، وجعل أيام العام كلّها ربيعاً، فكان تسلُّمه مقاليد الحكم في أبوظبي فاتحة عهد جديد، طوت به أبوظبي صفحةً، وفتحت صفحات مشرقة بالأمل. انتشر صيت زايد في الإمارات المجاورة فجاءت الجموع مهنئة، وتوافد الناس من كلِّ مدينة وقرية ليشهدوا زمناً تتسارع فيه وتيرة حركة التغيير في أبوظبي، وتتبدل الصورة، وتكتسي رونقاً جديداً، ومن بين تلك الوجوه ظهر وجه ذلك الفتى الصغير الذي كانت مداركه تتفتّح والعهد الجديد يطرق أبواب التغيير بشدة. تصل قافلة السيارات إلى مشارف المدينة التي طالما تردَّد اسمها كثيراً على لسان والده الذي ولد بها وعاش سنيّ حياته الأولى فيها، وما زالت ذاكرته تختزن الكثير من ملامحها. تتجوّل عينا الفتى في المدينة بعد أن عبرت السيارة جسر «المقطع»، فيرى مساحات شاسعة من الأراضي الخالية، قبل أن تبدو له مجموعة من البيوت تحتضنها خاصرة البحر، ويمتد الفراغ من حولها، غير أنَّ حركة بناء غير عادية كانت آخذة في الزحف على ذلك الفراغ. هكذا انطبعت هذه الصورة الأولى عن أبوظبي في ذهن الفتى الصغير بعد أن أمضى فيها أياماً. يكبر الفتى وتكبر الصورة، وزايد يضيف كلَّ يوم إليها تفاصيل أخرى، فتتحقَّق أحلامٌ كبيرة، ويتوحَّد الوطن، وتصبح الإماراتُ المتفرقةُ دولةً متحدةً، ويختفي ذلك «الكشك» الخشبي الذي توقَّفت عنده قافلة الفتى في أواخر الستينيات من القرن الماضي لختم الجوازات، بل تختفي تلك الجوازات نفسها ليحلَّ محلها جواز واحد، ويصبح زايد هو رمز وحدة الوطن، وباني نهضته الحديثة، وقائد مسيرته.
 خمسون عاماً هي عمر تلك الصورة، شاهد الفتى خلالها آلاف الصور، وبقي للصورة الأولى حضورها الذي يتوهّج كلما حلّت مناسبة عيد جلوس زايد الميمون، حتى بعد أن انتقل زايد، عليه رحمة الله، إلى الرفيق الأعلى. فلولا ذلك اليوم ما كانت تلك الرحلة، وما كان ذلك العبور الكبير للوطن نحو المستقبل.