1,809 عدد المشاهدات
الكاتب: سعد بن عبدالله الحافي – رئيس تحرير مجلة الحرس الوطني السعودية
أكلنا وبددنا على الذر سورنا
وللذر في زاد الغانمين معاش
ومن لا يجود نيسبه قبل نيشبه
خطرٍ على ولده يروح ابلاش
الشاعر:
يقال إنه رجل درويش، والدرويش عند أهل الجزيرة العربية يطلق على غير العربي الفقير، ويرتبط غالباً بالشخص الذي يأتي وحيداً من بلاد فارس والهند سيراً على الأقدام لأداء مناسك الحج، ويعتمد في قوته على ما يقدمه الناس له.
مناسبة الأبيات
هناك روايات عدة متقاربة تتلخص في أنَّ هناك درويشاً صادف رجلين كانا في طريقهما إلى إحدى القرى من أجل إجراء عقد نكاح (مِلكة) لابنة أحدهما على الآخر، وقد توقفوا للغداء، فحلَّ عليهم الدرويش ضيفاً وكانوا قد صنعوا قرصاً من دقيق القمح وعندما نضج أخرجوه من الجمر، فنهض والد الفتاة فأخذ جزء منه (شلفه) وأعطاها الدرويش في يده ووضع الجزء المتبقي في ماعون وصب عليه السمن وقام بفركه والدرويش ينظر فرمى الدرويش بنصيبه معهم في الماعون قائلاً: “إن أيدموا بالقرص فأنا خويهم وإن شلفوا أنا خوي شلاف”، فانتهره أبو البنت، لكن الآخر أصر عليه أن يشاركهما، فأكل معهما وفضل من طعامهم ما تركوه للنمل الذي اجتمع عليه فأخذ الدرويش ينظر للنمل متمثلاً بهذه الأبيات، بعد أن عرف غرضهم الذي هم ذاهبون من أجله، وقد ضمنها إشارة للرجل الكريم بعدم إتمام زواجه بابنة ذلك الرجل البخيل ففهم الإشارة وتراجع.
مضمون القصة
يذكر منديل الفهيد، رحمه الله، في كتاب “قصص وأشعار” الجزء السابع من سلسلة آدابنا الشعبية في الجزيرة العربية، أن هناك شيخ قبيلة ويسميه، جاء لخطبة ابنة رجل من قومه غني ولكنه بخيل، وقد صادف أن كان لديهم في ذلك اليوم ضيف غريب أعطوه لبناً في المساء، فقال لهم آكل ثم أشرب، فقالوا ليس عندنا طعام فقال: الله كريم يا بدوي، وانصرف عنه وعن اللبن، وفي ذات الوقت قدم عليهم الشيخ فأكرموه، وعندما جلس على الطعام دعا الرجل الغريب فقالوا: هذا بعدين، قال: هذا ضيف قبلي وأحق مني، وقلط معه وأخذ يمد له من اللحم، ولم ينهض عن الطعام حتى أحس بأن الضيف الغريب قد شبع، وفي الصباح أخبرهم بحاجته فوافقوا له وذهبوا معاً قاصدين إحدى القرى وفي الطريق توقفوا للغداء.. ثم يسرد ما يتفق مع مضمون القصة السابقة ويذكر الأبيات كما يلي:
شبعنا وشبع الذر من سور زادنا
وللذر من زاد الرجال معاشي
يعطي العطا من كان ضاري للعطا
ويمن العطا من كان خاله لاشي
من لايعرب عيلته قبل منسبه
تروح عيلاته عليه بلاشي
ويلاحظ أن إضافة الياء للقافية غير صحيحة ويعيبها والأصح الاكتفاء بتسكين حرف الشين.
ويذكر محمد بن زبن بن عمير، رحمه الله، في كتاب “حكايات من الماضي” ما يتفق مع منديل بالأسماء، ولكن طالب الزواج كان ابن الشيخ الذي لم يكن مقتنعاً بها، ولكنه جامل ابنه ثم يسرد قصة الدرويش حين تقديم الغداء ويورد الأبيات التالية:
بخل ردي الخال في ربع قوتنا
وحنا طوايا والكبود اعطاش
وقام الكريم وجاد من ماجوده
واكرم غريب الدار مما حاش
حتى شبعنا واشبع الذر سورنا
وللذر من زاد الكرام معاش
فمن لا يعرب منسبه قبل منشبه
والا ترى ولده يروح بلاش
صور من مخطوطات شعر شعبي
دراسة الأبيات
1- نجد أن ابن المجاور (ت690هـ) في كتابه “تاريخ المستبصر” ذكر في حديثه عن كرم العرب: “كان حاتم طي إذا قدَّم الزاد قدام الضيوف وفضل منه شيء لم يرده إلى منزله بل يخليه على حاله. كما قال:
رحلنا وخلفنا على الأرض زادنا
وللطير من زاد الكرام نصيب”.
أقول إن هذا البيت يتطابق في سياقه مع بيت الدرويش برواياته المتعددة فهل يكون أحدهما محرفاً عن الآخر:
اكلنا وبددنا على الذر سورنا
وللذر في زاد الغانمين معاش
2- بالتدقيق في الأبيات التي أوردها ابن عمير نجد الصنعة تظهر واضحة في البيتين الأول والثاني:
بخل ردي الخال في ربع قوتنا
وحنا طوايا والكبود اعطاش
وقام الكريم وجاد من ماجوده
واكرم غريب الدار مما حاش
3- ورد عند منديل الفهيد بيت لا يخرج عن سياق البيتين وبالتالي يرجح لدي أن الأبيات الأقرب للصحة بين الروايات تكون هكذا:
أكلنا وبددنا على الذر سورنا
وللذر في زاد الغانمين معاش
يعطي العطا من كان ضاري للعطا
ويمن العطا من كان خاله لاش
ومن لا يجود نيسبه قبل نيشبه
خطرٍ على ولده يروح ابلاش
4 -لا يتصور أنَّ الدرويش ينظم الشعر العامي بهذه الجودة.
5-إنَّ العامة وخاصة الرواة غالباً ما يخترعون المناسبات أو يربطونها بأشخاص لهم شهرة وقصص مشابهة، خاصة إذا بعدت الفترة الزمنية للأبيات وجهل شاعرها، ولأبي زيد الهلالي وراشد الخلاوي وغيرهما نصيب وافر من ذلك، وقد اقترنت بحجرف الذويبي قصص أسطورية منها هذه الأبيات وقصتها، وهنا تقدم زمن ابن المجاور قرينة قوية تؤيد من ينفي أن يكون حجرف الذويبي من أهل القرن الثالث عشر الهجري، وطرفاً في مناسبة الأبيات عند بعض الرواة وخاصة أنه ليس هناك من يثبت حقيقة هذا الارتباط.
6- إنَّ اختلاف الروايات يقوي القول باجتهاد الرواة وتدخلهم في الأبيات والقصة.
7- إنَّ القرن السابع الهجري الذي دون فيه ابن المجاور تاريخه كان يشيع فيه الشعر العامي بين قبائل الجزيرة العربية ومن رحل منها إلى الشام وشمال أفريقيا وابن المجاور في رحلته مخالط لهم وناقل عمن خالطهم وذكر ذلك في مواضع متعددة من كتابه.
8-إنَّ البيت الذي أورده ابن المجاور ليس من شعر حاتم الطائي ولكن ابن المجاور يستشهد بما في ذاكرته واللغة والأسلوب في البيت تدل على أنه من الشعر العامي القديم وأجزم أنه جزء من أبيات أخرى ويرتبط بمناسبة تختلف عما ذكر ابن المجاور، وربما تكون هي ذات المناسبة التي جعل الدرويش بطلها ولكن البعد الزمني وتدخل الرواة حورها إلى هذا الشكل.
9-جاء عند الإمام أبي حامد الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين:
شَرِبْنا شَرابًا طَيِّبًا عِنْدَ طَيِّبٍ
كَذاكَ شرابُ الطَّيِّبِينَ يَطِيبُ
شَرِبْنا وَأَهْرَقْنا عَلَى الأَرْضِ فَضْلَهُ
وَلِلأَرْضِ مِنْ كأسِ الكِرامِ نَصِيبُ
وتروى بمعنى الطعام كما يلي:
أكَلْنَا طَعَامًا طَيِبًا عِنْدَ طَيِّبٍ
كَذَاكَ طعَامُ الأطْيَبيْنَ يَطِيْبُ
أكَلْنَا وَخَلَّفْنَا عَلَى الأرْضِ فَضْله
وَلِلطَّيْرِ فِي زَادِ الكَرامِ نَصِيْبُ
وهنا يظهر بشكل جلي جريان البيتين على ألسنة الناس، وربما هناك من وظَّف بيتاً منها في نص آخر، ولكن ما يهمنا هنا أنَّ اتفاق السياق المعنوي له مع أبيات الدرويش لا يعني بالضرورة ارتباطهما بنفس القصة وبالتالي هناك أبيات مستقلة ترتبط بقصة الدرويش وشاع تناقلها بين الرواة.