2,021 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
لو قامتْ مَحْكَمَةٌ من محاكمِ العربِ وجرَّمَت كلَّ وليِّ أمرٍ لا يهتمُّ بأبنائه، من حيثُ تعليمِهِم لغتَهم العربيَّةَ، وفرضت عليه غراماتٍ وأحكاماً تعزيريَّةً، لما رأيت ذلك مخالفاً للقوانين الشرعيَّة ولا الوضعيَّة، بل لرأيت النَّاسَ يتسابقون إلى الاهتمام بلغتنا الخالدة خوفاً وطمعاً في عطايا الحكَّام، إن جعلوا لمن يُتْقِنُها جوائزَ كبيرةً، وأعطت إدارات المدارس درجةَ التميُّز للطلبةِ المتقنين العربيَّةَ، ويتمُّ أيضاً ترقية الموظفين بناءً على قدرتهم على معرفةِ قواعدِ العربيَّةِ قراءةً وتحدُّثاً، وسيحدث ذلك عندما تكون لغتُنا أحدَ معاييرِ التميُّز في العمل، وليس كحال دوائرنا في وقتنا الحاضر.
كان لي صديقٌ يعمل لديه طالبُ علمٍ من إحدى البلدان الآسوية، ولا يتكلم هذا الآسيوي إلا بالفصحى مع مراعاة القواعد الصحيحة، وقد فوجئت بولدٍ صغيرٍ من أبناءِ صديقي وهو يتحدَّثُ العربيَّةَ بطلاقةٍ، فقلت لوالده: ما شاء الله، ولدك هذا كيف أتقن العربيَّةَ وهو لا يزال في السنوات الأولى من عمُرُه؟! قال: السرُّ في هذا الآسيوي طالبِ العلمِ، فإنَّه لا يكاد يفارقه فتعلَّم العربيَّةَ منه، فقلت في نفسي: إنَّ اللسانَ الفصيحَ يمكنُ إعادتُه لو بدأنا بتعليم أبنائنا مِن أوَّل نطقِهِم الكلامَ، لا أن نعلّمَهم لغةَ الأجانب!
إنَّ العربيَّةَ لا تموت؛ فهي خالدةٌ محفوظةٌ ما دامَ كتابُ الله يُتْلَى آناءَ الليلِ والنَّهار، ولكنَّها قد تَضْعَفُ في دولةٍ وتقوى في أخرى، بسببِ أهلِ هذه الدول العربيَّة وهو أمرٌ مشاهدٌ في هذه الأيَّام، ولا يكادُ يَخْفَى، وإنَّك أيُّها العزيزُ إنْ نظرْتَ إلى بلادِ الشَّامِ، فإنَّك ستجدُها من أقوى الدول العربيَّة في لسانِها العربيِّ، وأكثرها ترجمةً لكلِّ المخترعاتِ الحديثةِ والمفرداتِ الجديدة، كما أنَّ أهلَها يُحْسِنون أيَّ لغةٍ يتعلَّمونها وبسرعةٍ ببركة لغة القرآن وسرّها العجيب في تنوع مخارج حروفها، كذلك لو شاهدت مسلسلاً تاريخيًّا نُفِّذ في الشَّام فستجدُه مختلفاً كثيراً من حيثُ الفصاحةِ وسلامةِ النُّطْقِ عن غيْرِه من المسلسلاتِ المنتَجَة في بلادٍ أخرى، وذلك لاهتمامِهم الشديد باللغة العربيَّة
ولعلَّ الكلامَ عن اللُّغةِ الأم يقودُنا إلى ما يقوله علماء النفس: إنَّ عدمَ تفكيرِ الطفلِ بلغتِهِ الأم وإتقانه لها، يقلّلُ فرصَ الإبداعِ لديه، وأنا أقول: قد يقلِّلُ الإبداعَ ويحوِّله إلى مدينةٍ من الأفكارِ المشوَّهةِ التي لا تستطيعُ التمييزَ بين الأشياءِ، وتضعه في محنة المقارنة بين لغةِ أهلهِ واللُّغةِ المستوردةِ التي تعلَّمها قسراً، بسببِ هوى والديْه اللذيْنِ يريدانه أن يكونَ مبدعاً ومتفوّقاً على الآخرين بسبب هذه اللغة الأجنبيَّة. وفي الحقيقة هما، بهذا العمل، يقتلان أداةَ الإبداعِ عنده؛ وهي لغةُ الأم، ومِنْ بابِ التربيةِ الصحيحةِ للأطفال، يَنْصَحُ العلماءُ بألَّا يتعلَّم الطفلُ لغةً غَيْرَ لغتِهِ، حتى يُتْقِنَهَا، وتصبحَ هذه اللُّغةُ مسيطرةً على تفكيره، ثمَّ ينتقلُ إلى تعلُّمِ لغاتٍ أخرى، إن أحبَّ.
من المفارقاتِ العجيبةِ أيُّها السَّادةُ، أنَّ أحدَ الأقباطَ المصريين كان يعملُ مع صديقٍ لي في إحدى دوائر دبي، فقال له ذات مرّةٍ: إنَّ ابني يدرس جميع المناهج باللغة الإنجليزية في مدرسته، ولهذا أحرص أنا ووالدته على أن نحدّثه بالعربيَّة في البيت، فقال له: لماذا تفعلان هذا؟ أنا ولدي يحدثُني بالإنجليزية وأحدِّثُه بها، كي يزدادَ تمكُّناً منها؛ لأنَّه يدرس بها في مدرسته أيضاً، فقال القبطي: العربيَّةُ لغتُنا، ولغةُ أجدادِنا، نحنُ إذا لم نعلِّمُه فمن سيعلّمه، نحن نحرص على أن يفكّر بالعربيَّة وليس الإنجليزيَّة! قال صديقي: بعد أن انتهى من كلامه، كأنَّه لكمني على وجهي، وشعرت بالخزيِ والألم، فسكتُّ وانصرفتُ عنه.
لقد مرَّ على هذه القصَّة سنواتٌ عديدة، وقد وَقَعَتْ في زمنٍ، كان معظمُ التعليم في بلادِنا الحبيبة “الإمارات” بالعربيَّةِ، مع وجودِ مدارسَ أجنبيَّة قليلة كانت تعلّم بالإنجليزية، ولكنَّ الأمرَ اختلف جدًّا الآن، فقد أصبحت اللغات الأجنبية طاغيةً على العربية واستأثرت الإنجليزية بنصيب الأسد من حصة التعليم والوظائف لدينا، حتى بلغَ الموضوعُ غايةً من التغريب لا يمكن أن يصمتَ عنه أحد، ولهذا السبب قامت حكومتُنا الرشيدةُ مشكورةً بسنِّ قوانينَ ملزمةٍ للتعريب، ووضعت مبادراتٍ تُجْبِرُ الوزارات والدوائر والشركات التابعة لها باستخدام اللغة العربية، وقد تحمّس المواطنون والوافدون العرب لها على حدٍّ سواء، ولكنَّها لم تثمر حتى الآن، بسبب التدمير الكبير الذي لحق بلغتنا خلال عقدين من الزمان من قبل التعليم المدرسي، ثمَّ التعليم العالي الذي لا يعترف إلا بالإنجليزيَّة لغةً للعلم!! وَوَأَسَفَاهُ على ذلك!!
ومنذُ أيّامٍ أُخْبِرْتُ- وما أقْسَاه مِن خبرٍ- عن بنتٍ من “دبي” وهي من سلالةِ قبيلةٍ عربيَّةٍ، كانت هذه البنت تحاولُ أن تكتبَ بالعربيَّةِ فلم تستطِعْ وصعُب عليها الموضوع كثيراً، حتى قالت لعمَّتها، التي كانت تُشَجِّعُها على الكتابة بالعربية: “أنا أكره العربية”، ففوجئت العمَّة بهذه الكلمة وسألت ابنة أخيها عنها، فقالت البنت: أنا أحبُّ العربيَّة، ولكنّي بسبب عدم قدرتي على الكتابة بها أكرهها. يا عمَّتاه، إنَّنا لا نُحْسِنُ إلا الإنجليزيَّة. قلتُ: أوَّلاً وأخيراً، لا ألومُ، إلا الوالديْن، ثمَّ ألوم وزاراتِ التعليمِ في الوطن العربي!