1,528 عدد المشاهدات
الكاتب: جمال بن حويرب
وأنا أكتب هذه المقالة أتذكَّر آلاف الوثائق والمخطوطات التي كانت موجودة بيننا يوماً ما وزالت إلى الأبد أو أخفاها أحدهم، ولا ندري في أي صندوق من صناديقه دسّها فيه؛ فلا هو استفاد منها ولا أعطاها لمن يحفظها له ويتيحها للباحثين حتى يرحل هو عنها، وقد تنتهي معه محروقة أو مرمية أو مسروقة لأيدٍ أخرى تخفيها إلى ما شاء الله. وكم من قصصٍ مرَّت بي تدمى لها القلوب وتدمع من أجلها العيون؛ لأنَّ ثقافة التوثيق ليست ثقافة لكثير من الناس في شعبنا الكريم، فقد ضاعت الوثائق والصور والمبايعات والكتب وغيرها مما لا يحصيه مُحصٍ غير الله.
ولهذا يقول القاضي ابن جبيهاء عن هذا الأمر أيضاً ويشير إلى ضياع المخطوطات والأشعار: “ثمَّ إني وجدت للشيخ محمد بن سعيد الفضولي ساكن ببلد الجاهلي من ناحية وادي عاهن بحجر بني عيسى قصيدة له متمزقة ولم يبقَ منها الا أربعة أبيات ويقال عنها إنها طويله”. قلت: هذا حال كثير من وثائقنا لم يبقَ منها إلا ما ندر ومنها ما تركه القاضي ابن جبيهاء فلم نجد من أعماله إلا ديواناً صغيراً فيه قصائد قليلة من الوعظ وفتاوى النوازل التي أثبتت فيه لتدل على علم غزير واهتمام بالمحافظة على طرق الأولين في التدريس والإفتاءة عن طريق النظم، حيث يصل السؤال شعراً ويجيب عنه المفتي بمثله؛ لأن الجواب نثراً معيب عند العلماء، وهكذا كان يفعل ابن جبيهاء رحمه الله.
وقبل الحديث عن هذا الديوان القيم نكمل حديث القاضي ابن جبيهاء عن صباه وتعليمه فيقول: “كنا نتلقى تعليمنا تحت النخيل أو المساجد أو في بيوت المدرسين، وكان العقاب الضرب لمن لا يحفظ والثواب هو الثناء على الطالب” ثمَّ يذكر مناهج التعليم في تلك الأيام فيقول: “كنا ندرس القرآن عن طريق التلقين، أما الإعراب فكان مختلفاً من مكان إلى مكان آخر؛ فأهل دبي مثلاً كانوا يدرسون الإعراب حرفاً حرفاً”. قلت: حديث الشيخ يدل على اختلاف أساليب التعليم بين أهالي الإمارات ويظهر تميز معلمي إمارة دبي بسبب وجود المدرسة الأحمدية وكبار العلماء فيها، ولهذا قرر القاضي ابن جبيهاء السفر إلى دبي عند أخواله لإكمال تعلميه، يقول عن ذلك: “وبعد أن ختمت القرآن الكريم رحلت إلى دبي لتلقي مزيدٍ من العلوم والمعارف، وأقمت في منزل أخوال والدي وبقيت مدة من الزمن، وخلال هذه الفترة التقيت الشيخ محمد نور سيف وهو من سكان دبي فتعلمت على يديه الفقه المالكي والنحو والميراث والصرف، وكان مكان الدراسة في مسجد بندر ديرة دبي”. قلت: ما ذكره القاضي عن تعليمه في دبي على يد الشيخ محمد نور يدل على أن ابن جبيهاء التحق بالمدرسة الأحمدية ولم يذكرها لقوله أنه درس في بندر ديرة والأحمدية في ديرة واستخدام الشيخ مفردة بندر هذا هو الاستخدام القديم؛ فيقولون بندر ديرة وبندر دبي وبندر لجنة وهكذا وتعني مقر التجار أو المرفأ .
ثمَّ يتابع القاضي فيذكر قصة عن مجلس من مجالس الشيخ محمد نور وهم في مجلس التعليم فقال: “وأذكر أنه ذات مرة زارنا في المسجد رجل من البحرين وسألنا سؤالاً هو: ما الاسم الذي لا يثنى ولا يجمع ولا ينصرف؟ وعندما عجزنا أجاب شيخنا بأنه (الله) سبحانه وتعالى وبعد ذلك هاجر شيخنا إلى مكة المكرمة”.
لأسباب عدة سافر الشيخ محمد نور إلى مكة وبقي فيها حتى وفاته رحمه الله، ولكنه لم ينقطع عن زيارة أهله في دبي وهو ابنها البار. ومن كلام ابن جبيهاء نعلم أنه أخذ العلم في الثلاثينيات من القرن العشرين، لأنَّ هجرة الشيخ محمد نور كما تذكر المصادر إلى مكة المكرمة كانت عام ١٩٤٨. ولكن التاريخ الذي يذكره الشيخ ابن جبيهاء يدل أنه هاجر قبل ذلك والدليل ما ذكره في مذكرته فقال: “وفي عام ١٣٥٩ هجرية (١٩٤٠) عندما ذهبت للحج في وقتها على الجمال زرته مراراً هناك”. قلت: هذا يدل على أن الشيخ محمد نور سافر آخر الثلاثينيات، وكان حج ابن جبيهاء وعمره ٣٥ تقريباً، ويكون من ذكر أنه هاجر في سنة ١٩٤٨مخطأً، وسوف أصحح ما ذكرته في بعض كتاباتي عن سيرته.
هذا ولم يفت الشيخ ابن جبيهاء أن يذكر من كان يعلم الطلبة في العين فقال: “بعض الذين يقومون بالتدريس في مواقع أخرى من العين؛ منهم الشيخ علي بن سعيد الحادثي وابن سمسوم وطارش بن عبد الله وعبيد بن علي وعفرة بنت بروك”.
هذا وكنت أبحث كثيراً عن سبب تسمية منطقة العين بتوام في الجاهلية والإسلام فلم أَجِد تفسيراً مناسباً حتى وجدت ديوان القاضي ابن جبيهاء، فقال عن سبب التسمية: “تحدثنا كتب التاريخ القديم أنَّ مدينة العين كانت تسمّى “توام” وسبب هذه التسمية أنها كانت تتكوَّن من عدة أفلاج؛ كل فلجين يأتيان من جهة ويلتقيان عند نقطة واحدة فمثلاً:
– العين والداوودي توأمان
– القطارة والجيمي توأمان
– المعترض والجاهلي توأمان
– وهيلي والمسعودي كذلك”
وهذا الفهم لم يسبقه أحد إليه ولم يذكره أي عالم من الجغرافيين لا في القديم ولا الحديث مما يدل على علمه الواسع واطلاعه.
ديوان ابن جبيهاء
المتصفح لديوان ابن جبيهاء يعرف مباشرة أنه كان يكثر من كتابة الأشعار الوعظية والفتاوى الفقهية ويحب تخميس الأشعار على طريقة الأولين، ويكتب على منوال ما يعجبه من أشعار من سبقوه وقد قرأت الديوان عدة مرات فوجدت أن الشيخ كان يكتب الشعر موزوناً صحيحاً سليم الإعراب والصرف؛ لأنه نحوي خبير في اللغة مطلع على الأدب وله مكتبة كبيرة يقرأ منها العلم في ذلك الوقت الذي تندر فيه الكتب بسبب بعدنا عن أماكن بيع الكتب والطباعة وقلة ما في اليد، فإطعام العيال أولى من شراء الكتب في نظرهم، ولكن العالم سيبذل الغالي والنفيس لاقتناء كتب العلم، وإن سألت لما يكثر اللحن والكسر في وزن الشعر فسأجيب بقول الشاعر :
وهم نقلوا عني الذي لم أفهْ بهِ
وما آفة الأخبار إلا رواتها
وإن سمح لي الشاعر فسأقول وما آفة الأشعار إلا رواتها؛ لأن من روى أشعار القاضي أو كتبها عنه لم يكتبها بالشكل الصحيح فنقلت مليئةً منهم بالأخطاء النحوية والعروضية، وأقوم الآن بتصحيح ما أقدر على تصحيحه، ولعلي أخصص مقالة أخرى لدراسة أشعاره إن شاء الله.
بعد مرور سنوات العمر انتقل القاضي سعيد بن جبيهاء إلى جوار ربه مساء الجمعة ٢٢ من إبريل ٢٠٠١، رحمه الله وأدخله فسيح جناته.
تقرأون غدا :
الحمض النووي .. بين الرفض والقبول في علم الأنساب .