3,919 عدد المشاهدات
مجلة مدارات ونقوش – دبي
بعد انقضاء أكثر من ستين يوماً على الانتهاء منها، يحبس الإماراتيون أنفاسهم ويولّون وجوههم شطر الغرب، يستشرفون الأفق البعيد علّهم يرونها تسير ببطء، بعدما أضناها السفر أشهراً عديدة.. قد يفلحون في رؤيتها من بعيد، وأحياناً يسبقهم البشير منادياً أنْ ها قد وصلت القافلة. «مدارات ونقوش» تستعيد مع القرّاء نفحات من عبق الماضي، وتقربّهم أكثر إلى الطريقة التي كان الأجداد يؤدون بها هذه الرحلة من خلال شهادات عن قوافل الحج.
فقوافل الحج الإماراتية قديماً، في طريقها لأداء المناسك تمرّ برحلة شاقة تستمر أشهراً، ويتعرض الحجيج خلالها لمخاطر الجوع والعطش وقطّاع الطرق، ومختلف الأوبئة، لكن حلم الوصول إلى بيت الله الحرام، وأداء هذه العبادة العظيمة، وزيارة الحبيب المصطفى، ينسيهم كلّ ذلك.
فمحدودية الوسائل وحياة الشظف التي عاشها الأجداد في الماضي، لم تكن لتمنعهم من تأدية هذا الركن الأعظم في الإسلام، إنما العائق الوحيد الذي كان يقف أمامهم دائماً، هو عدم توافر نفقات الرحلة التي لا تكلّف في ذلك الوقت سوى 30 أو 35 روبية، قبل 60 عاماً من الآن، إضافة إلى 25 روبية، هي تذكرة الرحلة البحرية من دبي إلى البحرين ثمّ السعودية.
وخلال هذا الموسم من كلّ عام، يستعيد الأهالي في الإمارات ذكريات الأجداد في الحج منذ أكثر من قرن مضى، ويستحضرون بعضاً من حكايات من خاضوا هذا الطريق يوماً، وعادوا ليحدثوا بقصص قوافل الحج التي تبدو أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع.
طقوس الحج هنا تبدأ قبل أشهر من انطلاق القافلة المتجهة إلى بلاد الحرمين؛ فالرحلة تمتدُّ أشهراً وتفرض البحث عن رفقة صالحة، واختيار «دلّالين خبراء بخطوط سير الرحلات، وبمواقع توافر المياه والكلأ لرواحلهم من الإبل، وكذلك المحطات الآمنة للراحة والاستقرار»، وفق ما يقوله الباحث التراثي عبدالله عبدالرحمن.
في المتوسط تتكوّن القافلة من عشرين جملاً وناقة، تقسّم إلى فئات، تبعاً لوظيفة كل منها، فهذه للركوب، وتلك لحمل الزاد والمؤونة، وثالثة لحمل الحطب، لتأمين عمليات الطبخ في الطريق، وأخرى احتياطية لتعويض ما قد يلحق إبل القافلة من تعب أو نفوق نتيجة المشقة وطول الرحلة. هذه الاحتياطات ضرورية جداً، لكنها أحياناً قد لا تفيد الحجاج، فكثيراً ما تعرضوا للمرض والموت وهم في خضم رحلتهم الممتدة ذهاباً وإياباً، وكثيراً ما نفقت إبلهم أيضاً في عرض الصحراء، واضطروا لاستبدالها بأخرى يشترونها من الأحساء أو جدة.
ولكي تأمن القافلة متطلباتها اليومية من الغذاء، فإنَّ عليها اصطحاب مؤونة شبه متعارف عليها، هي الماء والأرز والمالح (السمك المملح)، والعوال (السمك المجفف) والسكر والسمن والعسل، ونوع خاص من التمر لإطعام الإبل طوال مسيرتها، إضافة إلى أسحلة خفيفة للصيد والاستعداد لمفاجآت الطريق، فضلاً عن الحرص على وجود بوصلة لتحديد الاتجاه.
طريق البداية
ورحلات الحج قديماً من الإمارات تتجه ناحية الغرب إلى مسار معروف للأهالي آنذاك، يُسلمهم إلى بداية الأراضي السعودية بعد عشرة أيام من المسير، قد تنقص بالنسبة لسكان أبوظبي والمناطق المحيطة بها، يعبرون خلالها إلى منطقة الأحساء شرقي السعودية، ومنها إلى الرياض فالمدينة المنورة ومكة المكرمة، مروراً بـ«أبيار علي» للاغتسال والتزوّد بالماء. هنا يبدأ الحجاج فعلياً أداء مناسك الحج، يُحرِمون ويمتنعون على الصيد، ويواصلون المسير بدأب على أمل الوصول إلى مكة المكرمة بداية عشر ذي الحجة.
وكنوع من الحرص على راحة إبلهم، التي يقطعون بها كلّ هذه المسافات الشاسعة، يقوم الحجاج أحياناً بترك إبلهم في بعض محطات الرحلة داخل الأراضي السعودية، ويستأجرون جِمالاً «برفقة جمّالين سعوديين كانوا يتفرغون في مواسم الحج لنقل وخدمة حجاج بيت الله، ويتكفلون أيضاً بتوفير المساكن والضروريات الأُخرى اللازمة»، وفق ما يؤكده الباحث عبدالله عبدالرحمن في هذا الشأن.
مناسك ومنافع
وخلال موسم الحج تنتعش الحركة التجارية والاقتصادية عموماً، لكن تسيير حملات الحج على ظهور الإبل بالنسبة إلى الإماراتيين في تلك الفترة بقي النشاط التجاري الأقوى؛ لذا نجد رجالاً تخصّصوا فيه منذ قرون واتخذوه وسيلتهم الأولى لكسب الرزق، واستمروا كذلك حتى منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، حسب ما يرويه.
وعادة ما يختار مسيّرو ومقاولو رحلات الحج قديماً نوعاً خاصاً من النوق يسمى «الزمول»، له قدرة عالية على الصبر والتحمّل، يتخذونه وسيلتهم الأولى والأخيرة لحمل الأشخاص والأمتعة والمؤن ومختلف الحاجيات، ويفضلونه على غيره من النوق لقوته وصبره.
كما يستعين بعض الحجاج في سفرهم ببيع إبلهم في السعودية؛ نظراً للثمن المرتفع الذي يلاقونه هناك، ويعودون عن طريق جدة فالدمام بالمنطقة الشرقية في السعودية، ثمّ يُبحرون مجدداً إلى دبي، ويعود بعضهم الآخر إلى الإمارات عن طريق الإبل مرة أخرى.
مرويات الحج
وبأسلوبه الشائق الذي يُرغمك على الاستماع إلى حكاياته، يسترجع الباحث التراثي راشد بن محمد بن هاشم حكايات الجيل القديم الذي سلك طريق الحج على ظهور الإبل، ويتخذ من رحلات الحاج سالم بن خليفة المحرّمي نموذجاً للرواية.
يسرح ملياً كأنما يستدعي من ذاكرته صوراً بعيدة، ثمَّ يروي بشغف لا يخفى حكاية المحرّمي، الذي انطلق من رأس الخيمة شرقاً، أواسط ثلاثينيات القرن الماضي، عابراً الصحراء إلى أبوظبي، سالكاً طريقاً خاصاً به، تختصر الطريق التقليدي المعروف، غير مكترث لطول الرحلة وخطورتها.. «يسير بمفرده دوماً، لكنه لا يبتعد عن البحر، ويعتمد على خبرته الطويلة ومعرفته الدقيقة بخفايا الطريق، فهو واحد من ذارعي الصحراء».
من ذاكرته التي تضجّ بأحاديث وصور الماضي البعيد، يستعيد ابن هاشم، كيفية انطلاقة رحلات الحج قديماً من الإمارات، ويقول إنها تتجه صوب الغرب إلى مسار معروف للأهالي، يدخلون من خلاله الأراضي السعودية بعد قرابة عشرة أيام من المسير، وفق خط سير مرسوم سلفاً يمر بمناطق وآبار محددة، ظلت طريقاً متعارفاً عليه لقوافل الحج قروناً عديدة حتى أواخر الخمسينيات تقريباً عندما بدأت رحلات الحج في السيارة.
ويسترسل ابن هاشم في حديثه معلقاً: «حينها لا وجود لجوازات السفر، لكن الحاج يأخذ معه بَرْوة (رسالة) من حاكم منطقته، موجّهة لأمير أو حاكم المنطقة التي يتجه إليها، وتكون موقّعة من طرف الحاكم».
وعلى الرغم من المشقة البالغة التي يتلقاها الحجاج طوال مسيرتهم، إلا أنّ التلاحم والتعاطف في ما بينهم، والحفاوة التي يتلقونها عند مرورهم بقبائل البدو ضمن خط سير رحلتهم إلى البلاد المقدسة، ساعدهم كثيراً على أداء الحج، وخفّف عنهم معاناة الطريق وجعلهم لا يشعرون بالغربة طوال هذه الفترة.
شاحنات وسفن
أما والده الحاج محمد بن هاشم، فهو أحد الذين ساروا في حملة الحج الخيرية التي نظمها الأخوان علي وعبدالله بالجافلة، من خور دبي عام 1959، عبر سفينة شراعية ضمت زمرة من الحجاج متنوعي المشارب، وانطلقت تمخر عباب الخليج متجهة نحو البحرين، مروراً بأبوظبي وقطر.
الرحلة استمرت أشهراً ثلاثة للذهاب والعودة، وتمّت على مراحل يستريح الحجاج خلالها في الطريق، يتزوّدون بالمؤن وتأخذ السفينة أشخاصاً آخرين.. «قد يكون أغلب من فيها حجاجاً، لكن ذلك لا يمنعها من نقل التجار والبضائع والناس العاديين أيضاً»، ووثق ابن هاشم أحاديث هذه الرحلة من والده شفهياً، ولا يزال يروي تفاصليها بدقة، ويستعيدها قائلاً: «هذه الحملة الخيرية لا تختص بأهل دبي؛ بل تشمل الراغبين بالحج من مختلف إمارات الدولة، تأخذ الحجاج على نفقتها الخاصة متكفّلة بجميع أمورهم، وتوفّر لهم كل المتطلبات، إضافة إلى مبلغ مالي عبارة عن مصروف للجيب»
وهناك نوع آخر يسميه ابن هاشم «الرحلة المختلطة»؛ أي تلك التي تجمع ما بين السفر بالشاحنة والسفينة، تجسده تجربة الحاج عبدالله بن نصيب، التي جرت قبل أكثر من ستين عاماً تقريباً، حيث يقول: «تحركنا من المنطقة الشرقية نحن سبعة حجاج، وذلك بعد انتهاء عيد الفطر المبارك، حيث ركبنا إحدى الشاحنات الكبيرة التي كانت حديثة الوصول إلى المنطقة آنذاك، وتتنقّل بين الطرق الصحراوية الوعرة والبراري والوديان، حاملة ـ بالأجرة ـ البضائع والركاب».
كان على ابن نصيب ورفاقه الحجاج أن يأخذوا أقلّ من يوم بين المنطقة الشرقية من الإمارات ودبي، ليستقلوا من أحد موانئها سفينة تمخر عباب «الخليج» أياماً عدة لتصل إلى البحرين، ويمكثوا هناك أياماً إضافية في مساكن مؤجرة، يدفعون مقابل اليوم الواحد خمس روبيات، ثمَّ يستأنفون الرحلة إلى مدينة الخبر شرقي السعودية، ويلتقون بمقاول بحريني يسمى العمّاري، يمكثون معه أكثر من أسبوع يوفّر لهم خلاله كل المستلزمات مقابل 250 روبية.
إلى هنا تبدو الحكاية طبيعية، لكن رحلة الذهاب بين مدينة الخبر والمدينة المنورة التي استغرقت أسبوعاً كاملاً ـ حسب رواية ابن نصيب ـ كانت شيئاً آخر، فاستمرارك أسبوعاً كاملاً على جناح السفر داخل شاحنة مملوءة بالناس والبضائع والحطب في شدة حرارة الصيف، معاناة لا توصف. مشقة الرحلة بالشاحنة لا تقتصر على هذا فحسب؛ فحرارة الطقس تمنعها المسير نهاراً، وترغم صاحبها على السير ليلاً فقط، لكن ذلك أيضاً قد يعرضه لمخاطر أخرى، فقد يضل الطريق ويبقى يدور في حلقة مفرغة، حتى يسفر الصباح ليكتشف أنه في النقطة التي انطلق منها أصلاً، بيد أنَّ هذه المصاعب كلها لم تكن لتقف في وجه الحاج ابن نصيب، ولم تمنعه من المواظبة على سلوك هذا الطريق بعد ذلك، فقد حجّ أكثر من 32 مرة، وأصبح بحكم تجربته الطويلة مقاولاً لخدمة الحج بالمنطقة الشرقية، خاصة خورفكان وكلباء.
بعض الحجاج يرى السفر بالشاحنة براً، أمراً في غاية الصعوبة، لكنه ينسى أيضاً أنَّ رحلة السفينة البحرية غير مريحة، فالدُّوار والبرد المتواصلان، وخطر ارتفاع الأمواج والرياح العاتية، مخاطر تتهدد حياة الحجاج آنذاك وتجعلهم عرضة للموت في أيّ لحظة.
رحلة العودة
عادة ما تكون رحلة العودة إلى الديار بعد الحج، أكثر مشقة من رحلة البداية.. فالحجاج أنهكتهم المناسك والسفر، والرواحل أضناها المسير أشهراً، لكن فرحة العودة أقوى من كل ذلك. وقبل أخذ طريق العودة، يستوجب على الحاج إحضار ماء زمزم وبعض الهدايا للأهل والأصدقاء والجيران.. الحلويات للأطفال، والحليّ الفضية والذهبية للنساء، والمسابح والسجادات والطاقيات للرجال.
تأخذ القافلة مجدداً طريقها إلى الوطن، عبر المسالك الجبلية والمنحدرات الرملية الوعرة الممتدة ما بين السعودية والإمارات، غير مكترثة بما قد يعترضها من مشاق، حسبها الوصول إلى الأهل والأحباب. وبعد أشهر مضنية من السير المتواصل تقترب القافلة رويداً رويداً.. تدخل الحيّز الجغرافي للأحياء والبلدات والقرى، تسير ببطء.. يرصدها مبّشر من أهل الحي قبل أن تصل أحياناً، فيطوف بالبيوت مسرعاً بخبر طال انتظاره: وصل الحجاج، وبذلك يستحق هدية رمزية على هذه البشرى.
تأخد القافلة طريقها داخل الأحياء حياً تلو آخر، ويأخذ الحجاج أيضاً طريقهم إلى بيوتهم، وبعدما يستريحون ويقسّمون الهدايا على الأهل والجيران والأصدقاء، ويقضون أياماً قليلة للراحة، يتنادون مجدداً لمأدبة يُقيمها كلُّ واحد منهم يوماً ببيته، يطعمون ويستذكرون دروب رحلتهم الشاقة والأثيرة.